في سوريا الأسد، لم يكن ممكن تخيّل أن تقف مجموعة من المعلمين في ساحة عامة، يهتفون ضد قرار حكومي، دون أن تطالهم القبضة الأمنية. لم يكن متخيّلًا أن يغلق تجار دمشق أو حلب محالهم احتجاجًا على سياسات الدولة المالية. ولم يكن من المسموح أن يتحدث مواطن علنًا، باسم حقيقي وصورة واضحة، ناقدًا لوزير أو قرار أو مؤسسة. كل ذلك كان يُعد “تجاوزًا للخط الأحمر”، وسببًا كافيًا للاعتقال أو الاختفاء أو النفي.

لكن اليوم، تغيرت المعادلة.

احتجاجات تجّار حلب ودمشق: من الركوع إلى الاعتراض

في حزيران/يونيو 2025، أقدم عشرات التجار في أسواق حلب على إغلاق محالهم، رفضًا لقرار وزارة العدل بإلغاء “الفروغ”، وهو أحد حقوق المستأجرين التاريخية. هذه الوقفة لم تكن فقط اقتصادية الطابع، بل كانت إعلانًا واضحًا بأن “السلطة لم تعد مطلقة”، وأن هناك من يقول “لا” بملء الفم.
تبعهم تجار دمشق بوقفات احتجاجية أمام غرفة التجارة، مرددين عبارات طالما كانت محرّمة.

ما يلفت الانتباه أكثر ليس فقط الاعتراض، بل طريقة تعامل الحكومة. الأمن لم يُرسل ليكسر الأبواب أو يُحرق المحلات كما في مظاهرات 2011، بل كانت هناك محاولات تفاوض وحلول وسط. لقد تغيّر شيء جذري في العلاقة بين المواطن والسلطة.

معلمو إدلب ينتزعون حقهم بالهتاف والراتب

في إدلب، نظّم المعلمون مظاهرة ضد قرار خفض رواتبهم بعد توحيدها مع محافظات أخرى. خلال أيام، تراجعت الحكومة عن القرار، وأعلنت صرف الرواتب بالدولار. هذه الحادثة تصلح لتكون نموذجًا لتكريس فكرة أن الاحتجاج السلمي لا يذهب سدى، وأن صوته حين يُرفع بأدب وعقل، يُسمع ويُحترم.

أصوات المعتقلين تعود من خلف الجدران

في دمشق، خرجت وقفات تطالب بكشف مصير المعتقلين، وتنادي بحرية الرأي، دون أن تُقمع. لم يعد الحديث عن المعتقلين مؤامرة خارجية أو “إثارة فتنة”، بل صار شأنًا عامًا مشروعًا.

في زمن الأسد، لم يكن الحديث عن المعتقلين ممكنًا حتى في الجلسات الخاصة. اليوم، تُرفع لافتات وصور، وتُنشر شهادات، ويُطالب بتحقيقات ومحاسبة.

السوشيال ميديا ليست ساحة خوف بعد اليوم

على فيسبوك وتويتر وتلغرام، ينشر سوريون من الداخل انتقادات واضحة، يكتبون بأسمائهم وصورهم، يناقشون السياسات، يطالبون بإصلاحات، ويوجهون رسائل للحكومة. هذا تحوّل ثقافي ونفسي عميق. الناس الذين نشأوا على الخوف من الهاتف الأرضي، صاروا الآن يتكلمون أمام الكاميرا.

هل كل شيء مثالي؟ بالتأكيد لا.

هناك ملاحظات مشروعة:

  • لا تزال بعض الأجهزة الأمنية تمارس تجاوزات، وهناك 157 حالة اعتقال تعسفي موثقة فقط في أيار/مايو 2025 وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان.
  • الرواتب لا تكفي، والبطالة مرتفعة، وهناك شكوك حيال العدالة في التعيينات والمؤسسات.

لكن ما تغيّر ليس فقط في السياسة، بل في الوعي الجمعي. لم تعد الدولة تختزل في صورة الرئيس، ولم يعد الأمن هو الرد الوحيد على الغضب الشعبي.

الثورة منحتنا اللسان، فهل نكمله بالعقل؟

الثورة السورية لم تحقق بعد كل أهدافها، ولكنها منحتنا شيئًا لا يُقدّر بثمن:
حق الكلام.
حق الوقوف في الساحات.
حق كتابة بوست على الفيسبوك دون أن يُقرع بابك في الليل.

إننا اليوم ننتقد حكومتنا ونحن نعيش تحت سلطتها، لا في منفى أو لجوء. نطالب ونحتج، لا لنُسقط، بل لنُصلح.
وهذه هي الثورة في جوهرها: تحويل الخوف إلى طاقة، والصمت إلى رأي، والشتات إلى عقد اجتماعي جديد.

قد تكون الطريق طويلة، ولكن ما تحقق حتى الآن لم يكن يومًا ممكنًا في ظل النظام السابق.
علينا أن نواصل النقد، نعم، ولكن بعيون ترى ما تغيّر، لا فقط ما تبقى.

أضف تعليق