سردية سوريا المسروقة من الكتب إلى الجدران

في سوريا، لم يكن الاستبداد مجرد نظام سياسي يتحكم في الدولة والاقتصاد، بل كان آلة جبارة لإنتاج النسيان. نسيانٌ منظمٌ، مقصود، ومُمنهج، هدفه أن يقطع صلة السوريين بحقيقتهم، ويزرع فيهم صورة مزيّفة لتاريخهم، حتى يفقدوا القدرة على التمييز بين الظلم والعدالة، بين الجلاد والضحية، بين الوطن والسلطة.

حين يُدفن القتيل مرتين

في كتب التاريخ السورية الرسمية، لا وجود لمجزرة حماة عام 1982. لا يتعلم الطالب السوري عن دكّ المدينة بالدبابات، ولا عن آلاف الضحايا الذين دُفنوا تحت منازلهم أو في مقابر جماعية بلا شواهد. ولا يرد شيء عن مجزرة سجن تدمر، أو الإعدامات الجماعية في سجن صيدنايا. تمّ دفن هؤلاء مرتين: مرة بأجسادهم، ومرة في ذاكرة من لم يُسمح لهم حتى بسرد قصتهم. لكن الجريمة لم تتوقف عند ما قبل الثورة. فمنذ عام 2011 وحتى 2024، ارتكب النظام السوري عشرات المجازر التي حاول محوها من الوعي العام، كما حاول النظام الأب ذلك من قبل. من البيضا وبانياس، إلى الحولة وداريا، إلى مجزرة الكيماوي في الغوطة، ومجازر حلب الشرقية والرقة وإدلب وخان شيخون ودوما، سقط مئات الآلاف من المدنيين، تحت قصف الطائرات والبراميل والغازات السامة، بينما كانت الرواية الرسمية تصفهم بـ”الإرهابيين” أو تنكر وقوع المجازر كليًا.

ورغم محاولات الإنكار، لم تختفِ هذه الذاكرة. الأدب والشعر السوري، في الداخل والخارج، حملا عبء التوثيق. كتب الشعراء قصائد عن المعتقلين والمفقودين والمنكوبين، ودوّن الروائيون تفاصيل الوجع، ونشرت يوميات ومذكرات وروايات تستعيد أسماء الضحايا وتعيد لهم وجوههم. لقد أصبح واضحًا أن المعركة لم تكن فقط ضد السلاح، بل ضد النسيان. واليوم، بات من الضروري أن نُدخل هذه الحقبة إلى تاريخنا الحديث بوصفها المرحلة التي كشفت عُمق القسوة، وشجاعة الذاكرة، وأهمية أن نكتب التاريخ لا أن نُسلّمه للسُلطة. لقد تم دفن هؤلاء القتلى مرتين: مرة بأجسادهم، بصمت قاتل، بلا جنازات. ومرة أخرى بنسيانهم، في عتمة مناهج التعليم وثقافة الدولة وإعلامها.

من هم أبطال سوريا؟

حين يُمحى اسم يوسف العظمة من أسماء المدارس والساحات، ويُستبدل باسم حافظ الأسد، لا يكون الأمر مجرد تغيير إداري، بل إعادة تشكيل ممنهجة للوعي الجمعي. النظام لم يكتفِ بتأليه الأب، بل عمَّق هذا النهج مع الابن؛ فصارت تماثيل بشار الأسد تُرفع على أنقاض مدن دمّرها، وكأنها إعلان أن الحاكم هو الوطن، وأن البطل هو من ينجو من المحاسبة. رموز الاستقلال الحقيقي مثل فارس الخوري وجول جمال تم تهميشهم، لا لأنهم غير جديرين بالذكر، بل لأنهم يُذكّرون بتاريخ لم يكن فيه “الأسد” هو البداية والنهاية. وحتى النساء السوريات اللواتي لعبن أدوارًا نضالية بارزة، كـ رُبى الرفاعي، وراوية راشد، وسهير الأتاسي، تم تجاهلهن تمامًا في السرد الرسمي، رغم أنهن واجهن الاعتقال والنفي والتشهير دفاعًا عن حرية الكلمة وكرامة الإنسان. في المخيلة الرسمية، لا مكان إلا لـ”القائد”، فكل بطولة لا تصبّ في مجد النظام تُمحى، وكل تضحية لا تخدم صورة “سوريا الأسد” تُسقط من الحكاية. وهكذا، أصبح سؤال “من هو البطل؟” في سوريا سؤالًا سياسيًا بامتياز. فمن لا يخدم الرواية السلطوية يُقصى من الذاكرة، ويُحكم عليه بالنسيان، مهما كان تاريخه ناصعًا أو تضحياته عظيمة.

مناهج دراسية لتكريس الخوف والطاعة

في سوريا، لم تكن المدرسة مجرد مكان للتعليم، بل كانت أول مختبر يُلقَّن فيه الطفل أن الطاعة فضيلة، وأن السؤال خطيئة. منذ عقود، صُمِّمت المناهج الدراسية لتكريس الخضوع لا الفكر، والخوف لا النقد، والولاء لا المواطنة. يتعلّم التلميذ باكرًا أن “الوطن” اسم آخر للقائد، وأن رفع اليد للسؤال يجب أن يكون بقدر رفعها للتحية. لا وجود في كتب التاريخ لمفاهيم مثل العدالة الانتقالية، أو حرية التنظيم، أو حقوق الإنسان. وتُدرّس “الوحدة الوطنية” كقيمة مفرغة من مضمونها، بينما الطائفية تُمارس في توزيع المناصب، والإعلام، وحتّى في سرد الروايات البطولية. تُختزل الحروب في “دور سوريا القومي”، ويُصوَّر الاحتلال الإسرائيلي للجولان كمجرد “هدنة” دون ذكر أنه لم تُطلق رصاصة واحدة في سبيل استرداده منذ عام 1973.

يبدأ التلميذ يومه بـ”قسم البيعة”، ويُدرّس في كتب اللغة نصوصًا تمجّد “الأسد القائد”، بينما يُحذف الأدب الحقيقي الذي يحرض على الأسئلة، أو يحتفي بالكرامة الإنسانية. لا يُدرَّس نزار قباني، إلا إذا تجرَّد من نقده السياسي. لا يُذكر محمد الماغوط، رغم أنه عبّر عن وجع السوري أكثر من مئات الخطب الرسمية. النتيجة كانت واضحة: أجيالٌ كاملة كبرت وهي تخاف من التعبير، وتربّت على أن الحاكم لا يُنتقَد، وأن صوتها لا يجب أن يعلو فوق صوت السلطة. وهكذا، لم تكن المناهج حيادية أبدًا، بل كانت أداة لإنتاج مواطن منزوع الإرادة، مبرمج على التبرير والخوف، لا على النقد والمساءلة.

إعادة تشكيل الخيال الشعبي

لم يكن الإعلام السوري مجرد ناقل للخبر، بل تحوّل إلى مصنع لإنتاج خيال شعبي مزيف، حيث يُعاد تشكيل الواقع ليخدم صورة الحاكم، وتُطمس الجرائم تحت عناوين “الاستقرار” و”السيادة”. منذ الثمانينات، خضع الإعلام الرسمي بالكامل لسلطة المخابرات، فأصبحت نشرات الأخبار مجرد نشرات تمجيد. كانت قناة الإخبارية السورية والتلفزيون العربي السوري يفتتحان النشرات يوميًا بأخبار الرئيس، حتى لو لم يقم بشيء، وكأن الحاكم هو الحدث بذاته. تُعرَض صور حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد في كل تقرير، يبتسم، يلوّح، يزور “الجنود”، أو يترأس اجتماعًا، بينما المدن تقصف، والبراميل تتساقط. وفي ذروة المجازر ما بين 2012 و2018، كانت الشاشات الرسمية تُعرض حفلات “انتصارات”، وبرامج حوارية تهين الضحايا، مثل ظهور “الإعلامي” شادي حلوة يضحك على مشاهد الدمار في حلب، أو حسين مرتضى وهو يأكل البقلاوة احتفالًا بسقوط داريا.

أما الدراما، فقد كانت الذراع الثقافية الناعمة للسلطة. مسلسلات مثل: “بقعة ضوء”، حينما تجرأت على النقد، تم تقليمها تدريجيًا لتصبح “نقدًا عامًا” بلا مضمون، “الولادة من الخاصرة”، بعد أن اقترب في موسمه الأول من كشف الفساد الأمني، حُورب علنًا وأُقصي مخرجه، “عناية مشددة” و”دقيقة صمت”، واجهت ضغوطًا رقابية رغم محاولتها التوازن. في المقابل، طُوِّرت مسلسلات تمجّد “التضحية من أجل القائد”، وتُظهر رجل الأمن كالمخلّص، والناشط أو الثائر كعميل خائن. بل إن بعض الأعمال، سُخرت بالكامل لتبييض صفحة النظام وخلط ورقة “المقاومة” بالدين والسياسة، بينما تتجاهل تمامًا جرائم النظام بحق الشعب الذي يعيش تحت قصفه. الإعلام السوري لم يكذب فقط. بل أعاد تشكيل خيال الناس، وجعل السوري البسيط يرى العالم من عدسة الخوف والتخوين، لا من نوافذ الحقيقة والكرامة.

نشرت في موقع تلفزيون سوريا

2025.06.27

أضف تعليق