حين يسقط الطغيان، يبدو وكأن كل شيء قابل للولادة من جديد: الدولة، المؤسسات، الحريات، وحتى الأحلام المؤجلة. غير أن ما يتكشف في لحظات التحول الكبرى أن بعض الهياكل القديمة لا تنهار مع الأنظمة، بل تتبدل أشكالها لتواصل حضورها بطرق أكثر خفاءً. في سوريا الجديدة، التي تخطو خطوات جادة نحو بناء وطن مستقل وعادل، برزت مفارقة مؤلمة: تُبنى الأوطان بجهود الجميع، لكن النساء ما زلن يُقصين عن طاولة القرار. بين أنقاض الطغيان وأطلال الذكورة، يقف المجتمع السوري أمام تحدٍّ أخلاقي وسياسي كبير: هل نعيد بناء وطن متحرر حقًا، أم نكتفي بتغيير الواجهات بينما تواصل البنى القديمة فرض وصايتها على المستقبل؟

ليس سقوط الأنظمة وحده ما يصنع الحرية، بل سقوط البنى الذهنية التي غذتها. في سوريا الجديدة، يبدو السقوط السياسي أكثر وضوحًا من السقوط الاجتماعي. فالذكورية التي شكلت خلفية صامتة للاستبداد ما زالت، رغم كل الإنجازات، تفرض حدودها على الحلم الوطني. حين تبنى الدول دون أن يكون تمكين المرأة في صلب هذا البناء، فإن الوطن يولد بنصف قوته، ونصف عدالته، ونصف قدرته على المستقبل.

التحولات العميقة لا تقاس فقط بإعادة تشكيل المؤسسات ولا بإصدار القوانين، بل بمقدار ما تُحدثه من تغيير جذري في نظرة المجتمع إلى ذاته. في سوريا اليوم، وبين زخم إعادة الإعمار السياسي والاجتماعي، تبرز فجوة مخيفة: النساء اللواتي شاركن في ثمن الحرية، يُقصين بهدوء عن هندسة معالمها الجديدة. إنها الذكورية في نسخة أكثر نعومة، ولكنها لا تقل خطورة عن الطغيان الذي أسقطته الثورة.

منذ سقوط نظام بشار الأسد، دخلت سوريا مرحلة جديدة تختلف جذريًا عن عقود الاستبداد السابقة. ولا يمكن تجاهل أن هذه المرحلة حملت معها العديد من الإنجازات السياسية والمؤسساتية الجدية: من تحرير القرار الوطني إلى تأسيس بنى قانونية أكثر عدلًا ومؤسسات أكثر كفاءة. غير أن هذه الإيجابيات، رغم أهميتها، لا تلغي حقيقة أن تحديات أخرى ما تزال قائمة، تتوزع على مستويات عدة: سياسية، اقتصادية، اجتماعية وثقافية. من بين هذه التحديات تبرز بوضوح ملامح ذكورية جديدة، تتسلل إلى المشهد العام، مهددة بإعادة إنتاج أنماط الإقصاء القديمة تحت شعارات العصرنة والبناء الوطني.

التحولات السياسية والثقافية: من الطغيان إلى الإصلاح، دون مساس بالبنى العميقة

لقد كان الطغيان السياسي الذي حكم سوريا لعقود متلازمًا مع طغيان اجتماعي ذكوري، حيث تداخلت السلطة الأبوية مع السلطة القمعية في إنتاج مجتمع يخاف من الحرية الفردية، وخاصة حرية المرأة. سقوط النظام القديم حمل معه انهيار جزء كبير من منظومة القمع السياسي، إلا أن البنى الاجتماعية التقليدية، بما فيها الذكورية، لم تسقط بنفس السرعة.

في اللحظة الحالية، تبدو سوريا وكأنها تقف على مفترق طرق. في السياسة، تتقدم خطوات واضحة نحو الديمقراطية النسبية، وفي الاقتصاد تُبنى هياكل جديدة بعيدًا عن الامتيازات الطائفية والحزبية. أما في المجتمع، فالتغيير أبطأ، وأحيانًا أكثر تعقيدًا. والسبب أن الثقافة الذكورية، كأي بنية اجتماعية راسخة، لا تتغير بمجرد زوال السلطة السياسية التي غذتها، بل تحتاج إلى مراجعة شاملة في الوعي الجمعي، والمناهج التعليمية، والإعلام، والمؤسسات الدينية والثقافية.

الذكورية الجديدة: النسخة “المتحضرة” من الإقصاء

اللافت اليوم هو أن الذكورية لا تُطرح بوصفها عداءً مباشرًا للمرأة، بل بوصفها “واقعية سياسية” أو “منطق أولويات”. يُقال مثلاً إن “المرحلة تتطلب الكفاءات بغض النظر عن النوع”، لكن عمليًا يتم استبعاد النساء من مواقع اتخاذ القرار تحت ذرائع مختلفة: قلة الخبرة، حاجة المجتمع للتماسك، تجنب “الإثارة الاجتماعية” أو حتى مجرد الخوف من النقد المحافظ.

هكذا يتم إنتاج ذكورية ناعمة، لا تصطدم مباشرة بالشعارات الكبرى للحرية والمساواة، لكنها تفرغها من مضمونها العملي. فبدلًا من أن تكون المرأة شريكة فعلية في بناء المستقبل، تصبح جزءًا من الزينة الخطابية للعملية السياسية، تُذكر في المناسبات، وتُحتفى بها نظريًا، دون أن تُمنح المساحات الحقيقية لتغيير الواقع.

الحاجة إلى سياسة واعية للمساواة

إن الخروج من هذا الفخ لا يكون بالدعوة إلى مساواة شكلية، ولا بمجرد تعيين عدد رمزي من النساء في مواقع ثانوية، بل عبر سياسة واعية للمساواة، تعتبر تمكين المرأة أولوية وطنية لا تقل أهمية عن إعادة الإعمار، أو إصلاح القضاء، أو تحديث الاقتصاد.

هذه السياسة يجب أن تبدأ بإعادة النظر في طريقة بناء المؤسسات نفسها:

  • تمكين النساء من الترشح والمنافسة المتساوية في الانتخابات المحلية والوطنية.
  • فرض نسب دنيا لمشاركة النساء في المناصب الإدارية والهيئات المنتخبة لفترة انتقالية حتى تتغير الثقافة العامة.
  • إعادة صياغة المناهج التعليمية بحيث تقدم صورة أكثر إنصافًا للمرأة ودورها في التاريخ والمجتمع.
  • دعم الإعلام المستقل الذي يبرز نماذج نسائية ناجحة، ويواجه الصور النمطية التقليدية.

دور المرأة ليس ترفًا… بل ضرورة وجودية

في مجتمعات ما بعد النزاعات، أظهرت الدراسات (راجع تقارير UN Women وWorld Bank) أن مشاركة النساء في صياغة السياسات تزيد من فرص السلام المستدام والتنمية الشاملة. سوريا ليست استثناء. تجاهل هذا الدرس يعني خطر إعادة إنتاج العنف الاجتماعي وإن بوجوه جديدة.

ليس مطلوبًا أن تكون المرأة مجرد رقم إضافي في معادلات الحكم، بل شريكًا حقيقيًا في إعادة بناء مجتمع مدمّر، يحمل في كل خلية من خلاياه آثار عنف سياسي واجتماعي عميق.

الختام: نحو عقد اجتماعي جديد

إن المعركة ضد الذكورية المتجددة ليست معركة النساء فقط، بل معركة المجتمع السوري بأسره، الباحث عن حياة أرقى من العنف والإقصاء. سوريا الجديدة بحاجة إلى عقد اجتماعي يعيد تعريف القيم المؤسسة للدولة والمجتمع، بحيث تكون الحرية، والعدالة، والمساواة، والمواطنة، ليست شعارات جميلة، بل أسسًا ملموسة تبنى عليها المؤسسات والعلاقات.

الطريق طويل وشاق، لكنه ضروري. ولعلّ إحدى علامات النضج الوطني أن ندرك: لا ديمقراطية بلا مساواة. ولا مساواة بلا حضور فاعل وشجاع للمرأة في كل مفاصل الحياة العامة.

رأي واحد حول “بين أنقاض الطغيان وأطلال الذكورة: حين تُبنى الأوطان وتُقصى النساء!

اترك رداً على Rou Chou إلغاء الرد