تخوض حداد في هذه الرواية مغامرة كتابية، تستكشف من خلالها صراع الهويات والانتماءات في لبنان وسط فوضى الحروب والانفجارات، مسلطة الضوء على التحديات التي تواجهها النساء والمهمشون ضمن مجتمع لا يزال يرفض الاختلاف ويتغذى على الجراح.

السرد المبتكر: أسلوب التقطيع السينمائي

جاءت رواية “القتيلة رقم 232” بتقنية السرد المتقطع، وهو أسلوب يعكس محاولات حداد المستمرة لخلق تجربة نصية متجددة لا يجرؤ الكثيرون على خوضها. تسرد الرواية الأحداث وكأنها مشاهد من فيلم سينمائي، تُعرض من زوايا متعددة، مما يخلق إحساسًا حركيًا داخل القارئ، ويضعه في قلب الحدث، خاصة في لحظات الذروة التي تتصاعد تدريجياً وصولاً إلى لحظة الانفجار. هذه التقنية تتطلب من القارئ الانخراط بشكل كامل، لتتبع مختلف الزوايا والشخصيات.

الرمزية السياسية والاجتماعية: تجاوز مفهوم النسوية

بينما قد يبدو ظاهر الرواية نسويًا من خلال تسليط الضوء على معاناة شخصيتي “ميشا” و”هند” اللتين تعكسان تجارب مختلفة من التمييز والقمع، إلا أن حداد تتجاوز النسوية إلى معالجة أوسع، تتناول النظام الاجتماعي والسياسي الذي يضيق على الأفراد ويعنفهم. فميشا تمثل المعاناة الجندرية التي تعيشها النساء، بينما هند، أو “عباس” في جسد أنثوي، هي انعكاس للتجربة الجندرية المعقدة التي تتداخل فيها الهوية الجنسية مع مجتمع يكبح الفردية ويرفض المختلف.

رمزية الانفجار: لحظة التوقف والانقطاع

تجسد لحظة انفجار مرفأ بيروت في الرواية ذروة تراجيدية تتوقف عندها الأحداث وتسقط عندها الحدود بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالكاتبة حداد لم تروِ عن الانفجار كحدثٍ مجرّد، بل جعلت الانفجار يغتال بطلتها “هند”، مما يحولها إلى ضحية إضافية من ضحايا الفاجعة، كأنما الانفجار يمحو أثر الفرد داخل دائرة القمع الكبيرة. موت هند لا يمثل نهاية القصة، بل هو استمرار لمصير اللبنانيين الذين تُبتَر حيواتهم على وقع المآسي المتلاحقة.

التشابك بين الخاص والعام: انعكاسات الهوية والتحولات الاجتماعية

إن علاقة حداد مع المجتمع والهوية والحرية تتضح بشكل عميق في تناولها لشخصية “هند” التي تعكس محاولة للبقاء كإنسان في ظل نظام مجتمعي يرفض الاختلاف ويكرس الانغلاق. ومن خلال شخصية هند، تعبّر الكاتبة عن انقسام اللبنانيين وترددهم حيال التغييرات الجذرية في المجتمع، حيث يعيش الأفراد وسط جدران قاسية من التقاليد والدين والسياسة، فيظلّون عالقين في دوامة الهويات المتنازعة.

الحرب كعنصر مكوّن للشخصية: اعتراف بالكبت والمعاناة المتأصلة

تحتوي رواية “القتيلة رقم 232” على بُعد شخصي يكشف عن طبيعة العلاقة التي تجمع الكاتبة بالحرب، وكأنها جزء من كيانها، حيث تقول حداد إنها لا تستطيع الهروب منها رغم محاولاتها المتكررة. هذه الرواية تكشف عن معاناة الكاتبة نفسها من كبت طويل المدى في لبنان، فهي تنقل إحساسها بالألم والصراع من خلال شخصياتها، كأنها تصرخ بصوت ميشا وهند بأنهما أسيرتان لنظام قمعي يهدم حياتهما.

السرد المتداخل ومكانة الكاتبة: دور الصوت الروائي

تستخدم حداد صوتًا سرديًا عارفًا، يتدخل بشكل مباشر في توجيه القارئ نحو منظور معين حول المعاناة الإنسانية، ويتعدى دوره إلى تحفيز القارئ على التفاعل مع الأفكار. تتخلل السرد مشاهد توجيهية حيث تطرح الأسئلة وتثير الحيرة، كأنّ الكاتبة نفسها تشارك في تشكيل النص مع القارئ. ربما كانت هذه التقنية جريئة من حيث أنها لا تترك للقارئ حرية الاستنتاج، بل تقيده بإيقاعها الخاص، مما يزيد من عمق التفاعل الشعوري مع النص.

رحلة إلى أعمق زوايا النفس البشرية

يمكن القول إن رواية “القتيلة رقم 232” لا تكتفي بكونها مجرد نص أدبي، بل هي تعبير عن صرخة مكتومة لا تزال تتردد في أرجاء لبنان. تقدم حداد نصًا ثقيلًا، عابقًا بالتفاصيل التي تجسد الفقد والدمار والخوف من الموت، وتذكرنا بأن الحياة في لبنان قد تكون مجرّد انتظار دائم لكارثة جديدة. “القتيلة رقم 232” تظل شاهدًا على الفجيعة المتكررة، حيث تتقاطع فيها مصائر الشخصيات، لتروي حكاية مجتمع عالق في دوامة من العنف والقهر، وتجعلنا نواجه هذا الواقع بأقصى درجات الصدق.

أضف تعليق