في ليلة عاصفة، على جزيرة أرواد السورية، كان الأفق يمتلئ بالغيوم الداكنة، والمياه تتلاطم بشدة حول الجزيرة الصغيرة وكأنها تريد أن تلتهمها. في وسط هذه الفوضى البحرية، كان هناك رجل مستلقٍ على سرير مهترئ في كوخ خشبي. هذا الرجل هو نزار، ممثل شهير سابق، كانت حياته أشبه بمسرحية مكتملة الفصول؛ مليئة بالنجاحات والانهيارات، بالحب والألم.
نزار، الذي لطالما أضاءت أضواء المسرح وجهه وصدحت باسمه قاعات السينما في دمشق وبغداد والقاهرة، وجد نفسه الآن وحيدًا في كوخه الصغير، محاطًا بالمياه التي تعكس بريق ماضيه البعيد. جسده أنهكه المرض الذي باغته فجأة، ومع سوء الأحوال الجوية، تعذر وصول قوارب الإنقاذ إليه. وبينما كان يسمع هدير الأمواج المزمجر، شعر أن الموت يقترب منه، ويخوض صراعًا داخليًا مع ذاته، صراعًا لا يعرف سوى هو كيف يحمله.
تتداخل في ذهن نزار ذكريات مشرقة وأخرى قاتمة، تعيد تشكيل فصول حياته أمامه كأنها عرض أخير. استذكر لياليه في دمشق عندما كان يلقي الشعر في مقاهي باب توما ويعانق أصوات التصفيق، واستذكر بغداد بنهرها العظيم حيث شارك في أول مسرحية تراجيدية له. استحضر القاهرة، المدينة التي كانت شاهدة على خيباته الكبرى، وكيف تبدلت الأحلام فيها إلى سراب، وكيف أضاع فيها حب حياته بسبب غروره.
كان نزار يحدق في المياه التي تلتف حول الجزيرة، مياه زرقاء تبدو وكأنها تهمس له بسر ما، تحمل معه رمزية النقاء الذي لطالما سعى لتحقيقه ولكنه لم يستطع الوصول إليه. كانت الأمواج ترتفع وتسقط أمام عينيه، ترمز إلى مكانة لم يصلها إلا قلة من البشر، ذلك الصفاء الذي تمنى أن يبلغه. لكنه الآن، محاطًا بالبحر وعاجزًا عن الحركة، أدرك أن حياته كانت أشبه بالمياه المضطربة، زاخرة بالشغف والاضطراب ولكنها بلا طائل.
مع كل موجة تضرب الشاطئ، كان نزار يشعر بتموجات الحنين والندم تتصاعد في داخله. تذكر كيف باع إخلاصه لأدوار لم يحبها، وكيف اختار حياة الرفاهية على حساب فنه وقناعاته. ارتجف عندما مرّ بخاطره مشهد من إحدى مسرحياته حيث كان يلعب دور الرجل الذي يواجه الموت بشجاعة. والآن، ها هو يواجه الموت، لكنه يدرك أنه لا يملك تلك الشجاعة الحقيقية التي جسّدها على المسرح.
تمر الدقائق ببطء، وكأنها ساعات. في لحظة وعي شديدة، نظر نزار إلى الأمواج التي كانت تحيط بالجزيرة وكأنها تحاول أن تعانقه. همس لنفسه: “هل كانت هذه المياه التي لطالما خفتها هي الخلاص الذي بحثت عنه؟ أم أنها فقط مرآة تعكس كل ما هربت منه طوال حياتي؟”.
وبينما كانت عيناه تتثاقل، وصداه الأخير يتردد بين أروقة ذاكرته، أدرك نزار أن البحر، بكل عنفه وسكونه، كان الحياة التي هرب منها، وكان النهاية التي لا مفر منها.
