غيث حمّور

شهادتي مجروحة بالصديق غطفان غنوم، لا لأنني أعرفه فقط، بل لأنني أعرف طبقة المخرجين الذين ينتمي إليهم: أولئك الذين لا يلتقطون الصورة بوصفها شكلًا، بل بوصفها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الذاكرة. مخرج يقترب من الحياة بقلقٍ صافٍ، وبنفسٍ تائهة تبحث دائمًا عن مكان لوضع الحقيقة قبل أن يُعاد طمسها. ومع ذلك، وحتى لو جرّدت علاقتي الشخصية به، يبقى فيلمه «الابن السيّئ» تحفة وثائقية ثقيلة الوزن، لا تُشاهد بعينٍ مرتاحة ولا تمرّ مرورًا عابرًا. فيلم يعرف تمامًا ما يقول، ويعرف كيف يوجّه المشاهد نحو تلك المنطقة المؤلمة التي يهرب منها الجميع.

غطفان لا يروي الثورة السورية كحدث سياسي، بل كذكرى طُعنت مرّات كثيرة، ورفضت أن تموت. الفيلم أقرب إلى سيرة جرحٍ طويل: جرح فرد عاش التحولات، وجماعة دفعت الثمن، وبلدٍ حاول أن يتذكّر وهو يُدفن تحت الركام. وهنا تحديدًا تكمن القيمة الفنية للعمل؛ فالمخرج لا يقدّم شهادات باردة، بل يذيب نفسه داخل المادة، كأنها جزء من تركيبته البشرية. الخاص هنا ليس هامشًا، بل بوابة لفهم العام.

العنوان «الابن السيّئ» ليس توصيفًا لشخص، بل سؤالًا ممتدًا: من هو الابن السيّئ؟ الذي يرفع صوته رفضًا؟ أم الذي يخضع بصمت؟ أم الذي يقرّر أن يقول “لا” في وجه أبوةٍ سياسية جعلت الطاعة واجبًا واعتبرت الخوف فضيلة؟ الفيلم يعيد تعريف العلاقة بين الابن والأب، بين المواطن والسلطة، بين الفرد والمجتمع… ويضعنا أمام تلك الثنائية التي لازمَت السوريين عقودًا: إذا لم تكن مطيعًا للسلطة فأنت سيّئ، وإذا كنت سيّئًا فمصيرك القمع.

جماليات الفيلم تنبع من لغته البصرية؛ ليست لغة متعجّلة أو مُصطنعة، بل لغة هادئة على السطح، مشتبكة من الداخل. كل لقطة تبدو كأنها تحاول الإمساك بزمنٍ يفرّ من اليدين، وكأن غطفان يحاول إنقاذ ما تبقّى من ذاكرة كان يمكن أن تُمحى بسهولة. استخدامه للأرشيف، للمشاهد الشخصية، للفلاشباك، وللانتقالات بين المنافي والمنازل، بين لحظات الحياة البسيطة ومشاهد القمع، يمنح الفيلم بناءً محكمًا وعاطفةً لا تتورّط في الميلودراما.

الفيلم لا يغازل الجمهور بالبكاء. لا ينتج المشاعر في مصنعٍ سريع. بل يضع الحقيقة أمام المتفرّج بصلابتها، بقسوتها، وبخجلها أحيانًا. وهذا ما يجعل «الابن السيّئ» وثائقيًا نادرًا: لأنه لا يطلب التعاطف، بل يفرض المواجهة. لا يبحث عن خلاصٍ جاهز، بل يُظهر حجم التعقيد. لا يقدّم الثورة كملحمة بطولية ولا كفشل؛ بل كحقيقة بشرية ما زالت تتنفّس رغم كل شيء.

ومع سقوط النظام، يكتسب الفيلم بُعدًا جديدًا. عرضه اليوم في دمشق يشبه استعادة شيء سُرق طويلًا: الذاكرة. كأن الفيلم يعود ليقول إن الصورة التي حاولوا منعها لم تختفِ، وإن الألم الذي أرادوا دفنه لا يزال يعلو على السطح. هذا ليس مجرد عرض سينمائي؛ إنه لحظة رمزية محمّلة بأسئلة عن العدالة، المصالحة، والكتابة من جديد فوق أنقاض تاريخٍ أُريد له أن يزول.

غطفان لا يحتاج إلى شهادة صديق، لأن الفيلم نفسه يشهد. و«الابن السيّئ» لا يحتاج إلى تصنيف واحد: إنه وثيقة سياسية، واعتراف وجداني، وأرشيف حيّ، وصرخة مكبوتة، ومرثية طويلة لبلدٍ لم يُتح له أن يدفن موتاه بكرامة.

هذا العمل سيبقى، ليس لأنه يروي ما حدث، بل لأنه يذكّرنا بما لم ينتهِ بعد: معركة الذاكرة ضد النسيان، ومعركة الإنسان ضد الأبوة القمعية التي حاولت إعادة تشكيله على صورتها.

غطفان في هذا الفيلم لا يدوّن التاريخ…بل يمنع سقوطه.

أضف تعليق