في عالمٍ يتغير بسرعة، لم تعد القوة الصلبة كافية لتفرض دولة نفسها. السلاح والاقتصاد لم يعودا وحدهما اللاعبَين الأساسيَّين في معادلة النفوذ، بل برزت القوة الناعمة كأداة استراتيجية لتشكيل العقول والقلوب عبر الإعلام، الرياضة، والفن.
الدول التي فهمت هذا مبكرًا أصبحت تصوغ روايتها للعالم، بينما بقيت أخرى على الهامش، تتفرج على منافسة لا تقل شراسة عن الحروب العسكرية.

الإعلام… من صناعة الخبر إلى صناعة الرواية

لم يعد الإعلام ناقلًا للأحداث فحسب، بل أصبح صانعًا للرواية ومؤثرًا في الرأي العام المحلي والعالمي.
الولايات المتحدة وظّفت هوليوود لتسويق صورة “الحلم الأمريكي”، فيما بنت قطر شبكة beIN Sports لتضع نفسها في قلب صناعة الإعلام الرياضي، بينما استخدمت روسيا قناة RT لمواجهة سرديات الغرب وتثبيت وجهة نظرها عالميًا.

هنا يتحول الإعلام من مجرد أداة ترفيه إلى سلاح ناعم يصوغ الوعي الجمعي ويعيد رسم خرائط النفوذ.
السؤال الذي يفرض نفسه: هل نملك نحن، كشرق أوسط وسوريين تحديدًا، منصات قادرة على رواية قصتنا بدلًا من ترك الآخرين يفعلون ذلك بالنيابة عنا؟

الرياضة… دبلوماسية بلا تأشيرة

في السنوات الأخيرة، تحولت الرياضة إلى لغة نفوذ عالمية لا تحتاج إلى حدود ولا جوازات سفر.
قطر قدّمت نموذجًا لافتًا في مونديال 2022، حيث وظّفت البطولة لتعزيز مكانتها الاقتصادية والسياسية عالميًا. السعودية بدورها دخلت السباق عبر رؤية 2030 وصفقات رياضية ضخمة مع نجوم عالميين، لتصبح في قلب النقاش الرياضي الدولي.

لم يعد فوز منتخب أو استضافة بطولة مجرد حدث رياضي؛ بل هو رسالة سياسية واقتصادية تعكس مكانة الدولة وقدرتها على لعب دور في النظام العالمي.
وهنا يغيب سؤال آخر: متى نرى الرياضة السورية تتحول إلى أداة سيادة حقيقية بدلًا من كونها مجرد منافسة محلية محدودة التأثير؟

الثقافة والدراما… غزو صامت للعقول

الدراما والفن يدخلان إلى البيوت بلا استئذان، يتسللان إلى العقول ويعيدان تشكيل الوعي الجمعي ببطء وفاعلية.
تركيا مثال حي على ذلك؛ إذ وظّفت مسلسلاتها التاريخية مثل قيامة أرطغرل والمؤسس عثمان لنشر سرديتها الثقافية وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط. كوريا الجنوبية بدورها بنت إمبراطورية ناعمة عبر موجة K-pop ومسلسلات مثل Squid Game، حتى أصبحت ثقافتها مصدر دخل قومي وأداة نفوذ سياسي.

أما في سوريا، فبينما كانت الدراما يومًا ما قوة ناعمة حقيقية، أصبحت اليوم أقرب إلى ظلّها القديم، بعد أن فقدت القدرة على المنافسة عربيًا ودوليًا.

سوريا… الفرصة الضائعة والرهان القادم

تراجعت القوة الناعمة السورية رغم امتلاكها عناصر غنية لصناعة نفوذ ثقافي ورياضي مؤثر.
لكن الفرصة لا تزال قائمة إذا وُضعت استراتيجية متكاملة تستثمر في:

  • الرياضة الوطنية: دعم المنتخبات وإعادة هيكلة الأندية لاستعادة حضورها الإقليمي.
  • الدراما والسينما: إنتاج أعمال تعكس هوية سوريا الحقيقية وتنافس عالميًا.
  • الإعلام الرقمي: بناء منصات حديثة قادرة على نقل الرواية السورية للعالم وإعادة تشكيل صورتها.

القوة الناعمة ليست ترفًا، بل ضرورة استراتيجية لاستعادة المكانة وإعادة رسم الدور السوري إقليميًا.

خاتمة

من يملك الإعلام والرياضة والثقافة يملك التأثير والنفوذ في القرن الحادي والعشرين.
القوة الناعمة لم تعد خيارًا إضافيًا، بل هي مفتاح البقاء في عالمٍ تحكمه السرديات والرموز أكثر مما تحكمه الجيوش.

العالم يتحرك بسرعة، والدول التي تتأخر عن استثمار قوتها الناعمة ستجد نفسها خارج معادلة التأثير. السؤال الأهم اليوم:
هل سنبقى مستهلكين لروايات الآخرين، أم سنمتلك الجرأة لنكتب روايتنا ونروي قصتنا للعالم؟

أضف تعليق