في إحدى أمسيات الصيف الهادئة، زارتني أختي برفقة أبنائها. كانت جلسة دافئة من تلك التي تختلط فيها الضحكات مع الفوضى، وتعلو الأصوات على وقع القصص والمشاكسات الطفولية. الجو العام كان صاخبًا بعض الشيء، كما هو معتاد في أي بيت فيه أطفال.

وبينما كنّا منهمكين في الحديث، رفعت ابنة أختي “تيا” – ذات الست سنوات – يدها فجأة. كانت ملامحها متعبة قليلاً، وصوتها جادًا أكثر مما نتوقع من طفلة في هذا العمر. قالت بصوت حازم وبلهجة نصف رجاء، نصف أمر:

“لو سمحتوا… احكوا بصوت واطي… بدي أشغّل التلفزيون براسي.”

توقفت الأصوات للحظة. ثم ابتسم الجميع. شيئًا في هذه الجملة استوقفني. ما الذي تعنيه تيا بـ “التلفزيون في رأسها”؟ هل تمزح؟ هل تكرر عبارة سمعتها في مكانٍ ما؟ أم أنها فعلاً اخترعت وسيلة جديدة للهرب من الضجيج المحيط؟

اقتربت منها وسألتها بلطف:

“شو رح تشوفي”

هزّت رأسها، وأجابت بصوت منخفض:

“ما بدي أقول”

ثم استدارت، وجلست بهدوء في زاوية الغرفة، وضعت كفيها في حجرها، وأغمضت عينيها، كأنها دخلت إلى عالمٍ لا يحتاج إلى كلمات ولا أجهزة.

في تلك اللحظة، فهمت. تيا لم تكن تمزح.

لقد قررت ببساطة أن تصنع مساحة خاصة بها، بعيدًا عن فوضى العالم الخارجي. ولأن لا أحد منحها “زر كتم الصوت” في الواقع، اخترعت وسيلة داخلية… واختارت أن تشغّل التلفزيون في رأسها.

ذلك التصرف الطفولي – البسيط في شكله، العميق في معناه – علّمني شيئًا لم أكن مستعدًا لتعلّمه من طفلة. نحن الكبار نملك كل الأدوات للهرب من العالم: الهواتف، الشاشات، سماعات إلغاء الضجيج، العطلات، التأمل، وحتى الانسحاب العاطفي الكامل. ومع ذلك، نغرق في الضجيج أكثر. نحن لا نبحث عن الهدوء، بل عن وسيلة تشغلنا عن حقيقة الضجيج.

أما تيا، فلم تكن بحاجة لأي من ذلك. لم تطلب آيبادًا، ولم تهدد بالبكاء، ولم تبالغ في ردّ فعلها. فقط طلبت بعض الهدوء… لتشغّل شيئًا لا نراه، لكنه موجود. تلفزيونها الخاص. شاشة الخيال. مكانها السريّ.

ما الذي كانت تشاهده؟
ربما مسلسلها الكرتوني المفضّل، أو مغامرة جديدة مع أرنبها الوردي، أو حتى مشهدًا اخترعته للتوّ عن غيمة تأخذها في نزهة عبر السماء.

لكن السؤال الأهم ليس “ما الذي كانت تيا تشاهده؟”
بل: لماذا لم نعد نحن نقدر على فعل ذلك؟ لماذا فقدنا القدرة على الجلوس في صمت، وإغلاق أعيننا، والسفر إلى مكان لا يشبه هذا العالم؟

في المساء، بعد أن غادرت العائلة، بقيت جالسًا في ذات الزاوية التي اختارتها تيا. أغمضت عينيّ، وقلت لنفسي: “حسنًا… فلأحاول.” حاولت أن أُشغّل تلفزيوني الداخلي. أن أبحث عن صورة، أو صوت، أو خيال، يعزلني عن كل ما حولي. لم يكن الأمر سهلاً. عقلي مشغول، مشوّش، مثقَل بالأخبار والإشعارات والقوائم الطويلة لما يجب أن أفعله غدًا.  لكنني حاولت. وتمنّيت، للحظة، لو كنت ما زلت في السادسة.

في عالمٍ يُقاس فيه الوجود بالضجيج، والنجاح بالسرعة، والحضور بعدد التنبيهات، تأتي طفلة وتقول لنا بلغة بريئة: “اسكتوا شوي… بدي أكون مع نفسي.”

تيا ليست فقط ابنة أختي.

هي معلّمة صغيرة.

أرشدتني إلى مكان كنت قد نسيته.

إلى غرفة صغيرة داخل رأسي… فيها تلفاز،

ينتظر فقط أن أضغط “تشغيل”.

أضف تعليق