في بلد مزّقته الحرب، وتشظّت فيه الهويات، بات من المعتاد أن يُسأل القتيل عن طائفته قبل أن يُسأل عن اسمه. أصبحت الطائفة معيارًا للانتماء، والدين أداة فرز لا علاقة لها بالإيمان أو الروح، بل بالاصطفاف والخوف والتحالف.

النظام الأسدي لم يُنشئ دولة طائفية بالمعنى التقليدي، لكنه جعل من الطائفة أداة للضبط السياسي والإداري. استخدمها كوسيلة ولاء، وغذّى بها الخوف الجماعي، حتى باتت الطائفة أشبه بسلاح شخصي يحمله المواطن لدرء الشبهة أو لنيل الامتياز.

بمرور الوقت، انزلق المجتمع السوري، بوعي أو من دونه، نحو أسئلة الهوية الدينية قبل أي سؤال آخر. حتى في الموت، لم يعد الشهيد شهيدًا للوطن، بل يُسأل فورًا: من أي طائفة هو؟ ما مذهبه؟ هل “يشبهنا” أم لا؟

رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن سنوات الثورة الأولى شهدت نوعًا من التماهي العابر للطوائف. المسلم والمسيحي، السني والعلوي، هتفوا للحرية معًا، ووقفوا في الساحات يتقاسمون الأمل. لكن سرعان ما تسلّلت الطائفية إلى جسد الثورة، فظهرت في خطاب الكتائب، واصطفافات المعارضة، وطريقة تعاطي الإعلام، وحتى في توزيع التعاطف العام مع الضحايا.

لكن إذا كانت هناك بداية ممكنة لوطن جديد، فهي لا تبدأ بالدستور ولا بالانتخابات، بل من نقطة أبسط بكثير: الاعتراف بأن من يُقتل ظلمًا على هذه الأرض هو سوري قبل أن يكون مسلمًا أو مسيحيًا، علويًا أو سنيًا، كرديًا أو عربيًا.

الدين لم يكن يومًا المشكلة. ولم تكن الطائفة عدوًا بحد ذاتها. المشكلة الحقيقية تبدأ حين يُصبح الانتماء الديني مبررًا لتبرئة القاتل، أو التغطية على الجريمة، أو السكوت عنها فقط لأن الفاعل “من جماعتنا”.


أن يغفر البعض باسم المذهب ما لا يُغفر باسم القانون، وأن تُقدّم العصبية الطائفية على العدالة، فهذه ليست مسألة فكرية، بل تهديد وجودي لوطن يعيش على شفا الانهيار.

“سوريا أولًا” تعني أن الإنسان أولًا. أن العدالة لا تُقسّم بحسب الهوية، وأن الكرامة لا تُوزّع وفق المذهب. تعني أن الولاء لا يكون لمن يصلي مثلنا، بل لمن يدافع عن الحياة مثلنا.

قد يكون المرء متدينًا ويحب وطنه، أو غير متدين ويضحي من أجله. لكن لا يمكن لأحد أن يدّعي الوطنية وهو يبرر القتل أو الظلم لمجرد أن الضحية من طائفة أخرى، أو أن الجلاد يشبهه في العقيدة.

حين يُقتل مواطن في أي بقعة من سوريا، لا ينبغي أن يُسأل: هل هو مسيحي؟ هل هو سني؟ هل هو علوي؟ بل يُقال ببساطة: سقط سوري. خسرنا إنسانًا كان من الممكن أن يكون لبنة في بناء ما تبقّى من هذا الوطن.

الطائفية ليست فقط خطابًا، بل ممارسة كامنة في تفاصيل الحياة اليومية، في ردود أفعالنا، في تعاطفنا الانتقائي، في تبريراتنا الصامتة. ومواجهتها لا تتطلب شعارات، بل جرأة في النقد الذاتي، وقرارًا جماعيًا بأننا تعبنا من الدم، وأننا نريد هوية واحدة لا تُكتب في خانة الدين، بل في خانة الوطن.

“سوريا أولًا” ليست جملة نزيّن بها الخطابات. إنها سؤال جوهري: هل يمكن أن نكون معًا رغم اختلافنا؟ هل نُحب الوطن حين لا يعكس صورتنا فقط، بل حين يعكس صور الآخرين أيضًا؟

ربما آن الأوان لنعيد تعريف الأخوّة، لا بوصفها تشابهًا في المعتقد، بل شراكة في الجرح، وفي الحلم، وفي الرغبة في حياة تستحق أن تُعاش.

نحن لا نحتاج إلى “تسامح” بارد. نحتاج إلى تفكيك بنية الطائفية من جذورها: في اللغة، في التربية، في الثقافة، في الإعلام، وفي أجهزة الدولة نفسها. لا يهم إن صليت نحو الشرق أو الجنوب، أو لم تصلِّ. لا يهم إن كنت تصوم رمضان أو الفصح، أو لا تصوم أصلًا. ما يهم أنك تؤمن أن كرامة السوري لا تُجزّأ، وأن سوريا ليست حصّة لطائفة، بل وطن للناس جميعًا.

أضف تعليق