بزحام مؤلم خرج السوريون ذات يوم من بلادهم. كان الزحام يومها غبارًا من الخوف، وصفوفًا من الخسارة، وحقائب تجرّ خيباتها على أرصفة الحدود. لم يكن ذلك الزحام احتفالًا، بل كان طابورًا منكس الرأس يسير نحو المجهول، مطاردًا بالبراميل والغازات السامة والتقارير الأمنية والوجع. كان زحام الهاربين من الموت لا الباحثين عن الحياة.

واليوم، بعد أكثر من عقد على الخروج الكبير، مشاهد العودة بدأت. مشاهد لعائلات تنزل من الحافلات، لأطفال يركضون على تراب الوطن لأول مرة، لرجال ونساء يعودون بخطى لا يعلوها الخوف، بل يحملها الحنين. لكن المدهش – أو الصادم – أن بعض الأصوات انزعجت من هذا الزحام الجديد. نعم، هناك من تغيظه عودة السوري إلى وطنه، كما تغذّى من قبل على تهجيره.

من الغرابة بمكان أن يصبح “العودة إلى الوطن” فعلًا مستفزًا لدى فئة معينة، تلك التي اعتادت أن تصف المهجّرين بأنهم متشددون فقط لأنهم رفضوا عبادة الفرد، أو لأنهم لم يصفّقوا للقاتل. هؤلاء الذين استسهلوا تصنيف الملايين كمتطرفين لمجرد أنهم قالوا “لا” في وجه نظامٍ عاش على دماء المعارضين، واعتاد أن يحوّل كل منتقد إلى خائن.

زحام اليوم ليس كزحام الأمس. في الزحام الأول، كانت القلوب مكسورة، مثقلة بمرارة الفقد وارتجاف الخوف، وكان كل جسد يحمل على كتفيه وطناً منهاراً، وكل عين مشبعة بصور الوداع الأخير. كان زحاماً بلا أمل، أقرب إلى طوفان بشري هارب من موت معلن، لا يشبه أي نزوح في التاريخ، لأن الجلاد فيه لم يكن غريباً، بل ابن البلد.

أما الزحام الثاني، فهو زحام العائدين، زحام من قرر أن الحب لا يُنفى، وأن الانتماء لا يُصادر بمرسوم. جباههم مرفوعة لا عناداً، بل كرامة. يحملون حقهم في الوطن كما يحمل الإنسان اسمه، لا يطلبونه صدقة ولا إذناً من أحد. في خطواتهم إصرار، وفي أعينهم دمعة متحجرة لم تجد وقتها أن تُذرف، وفي قلوبهم اشتعالٌ هادئ: نحن هنا، عدنا، ولن نكون وقوداً لمشاريع القهر بعد اليوم.

إن عودة السوريين اليوم هي أكثر من مجرد عبور معكوس للحدود. هي فعل سياسي بامتياز، حتى لو جاء مغلفًا بالمحبة. هي إعلان تحدٍّ صريح في وجه كل من أراد أن يمحو ذاكرة، ويعيد رسم خريطة البلاد على قياس الخوف والطاعة. هي تذكير بأن الوطن ليس حكرًا على نظام أو طائفة أو عائلة، بل هو حق للجميع، بمن فيهم من كُتب عليهم المنفى ظلمًا.

والمحبة الحقيقية لا تُقاس بعدد الصور المرفوعة في الساحات، ولا بعدد الولاءات المعلنة على الشاشات، بل تُقاس بعدد الأرواح التي ما زالت تؤمن أن سوريا، رغم كل ما فُعل بها، تستحق حياة تُبنى بالعدالة والكرامة لا بالخوف والتصفيق.

الملفت أن من رقص على جراح السوريين حين خرجوا، وبارك تهجيرهم، لا يطيق الآن مشهدهم وهم يعودون بعزّة. كأنّ الوطن لم يعد ملكًا للجميع، بل صار في ذهن البعض مزرعة خاصة لا يدخلها إلا من بايع على الصمت والخنوع.

في المحصّلة، ليست العودة فعلًا سياسيًا، بل فعل حب. لكن في بلد كُتب عليه أن يُدار بالحقد، يمكن للحب أن يبدو جريمة، وللزحام أن يُفسَّر كتمرد.

أضف تعليق