قراءة نقدية في رواية مها حسن
حين نقرأ “حي الدهشة”، لا نجد أنفسنا أمام حيّ حلبي فقط، بل أمام فضاء سردي يفيض بالحكايات، وتتسرب منه أصوات النساء الهامشيات إلى قلب النص لتتحوّل إلى بطلاتٍ في عالم روائي لا يُقصي، بل يُنصت ويُضيء. في هذه الرواية، ترسّخ مها حسن موقعها بوصفها إحدى أبرز الأصوات النسوية في الأدب العربي المعاصر، لا عبر الشعارات، بل عبر الأدب الحيّ، المحمّل بالتفاصيل، والهواجس، والأسئلة العميقة حول المرأة، الجسد، المجتمع، والذاكرة.
المرأة كبطلة لا كضحية: قلب المعادلة السردية
في “حيّ الدهشة”، تُعيد مها حسن تشكيل صورة المرأة في الأدب العربي، لا باعتبارها ضحية تائهة في عالم الذكورة القاسي، بل باعتبارها كائنًا مركّبًا، نابضًا، ومتعدد الأوجه. البطلة “هند” ليست أنثى خاضعة لقدر محتوم أو لسلطة أبوية مطلقة، بل شخصية فاعلة، تحمل أسئلتها، وتتقصى طرق نجاتها، وتكتب حياتها بيديها، وإن كانت ترتجف أحيانًا.
المعتاد في سرديات المرأة في الشرق أن تنحصر ضمن ثلاث قوالب: الأنثى المضحية الصامتة، أو الأنثى المتمردة التي تدفع ثمن تمردها، أو الأنثى الغاوية التي يُعاد إنتاجها كجسد للفتنة أو الخطيئة. لكن مها حسن، وبتأنٍ سردي مدروس، تتهرب من هذه القوالب. لا تُسجن هند في صورة “المرأة التي لم تُنصف”، بل تُقدَّم كأنثى معاصرة، متعلمة، مستقلة، تحمل ذاكرة الطفولة الفقيرة في حلب، وتتنقل بين مدن العالم محمّلة بثقافات متداخلة وندوب عاطفية.
ما يجعل هند بطلة بالمعنى الحداثي للكلمة، أنها لا تملك أجوبة جاهزة، ولا تسعى إلى الانتصار التقليدي. بل تواجه حياتها بما تملك: وعيها، شكوكها، ورغبتها العميقة في أن تحب وتُنجب وتعيش. البطلة هنا لا تريد كسر العالم، بل فهمه. لا تبحث عن انتقام بل عن توازن. ومجرد سعيها هذا في ظل مجتمع شرقي قمعي يحاسب النساء على الرغبة أكثر مما يحاسب الرجال على الجريمة، هو فعل تمرد عميق.
لقد كسرت مها حسن في هذه الرواية خطاب الاستعطاف المكرّس عن الأنثى العربية، ورفضت أن تجعل القارئ يشفِق على البطلة. بل جعلته يقف أمامها، يُحاورها، يراها نِدًا، ويتأمل تعقيداتها كما يتأمل نفسه. إنها بطلة لا تنتظر الإنقاذ، بل ربما – على غرار نساء نوال السعداوي أو غادة السمان – تُنقذ النص نفسه من رتابة الذكورة السائدة فيه.

الخطاب النسوي في “حي الدهشة”: لا وعظ ولا أيديولوجيا… بل تفكيك ناعم للذكورة
الرائع في خطاب مها حسن النسوي في “حي الدهشة” أنه لا يأتي بصخب أو مواجهة مباشرة، بل يتسلل بهدوء عبر الحكاية، عبر اللغة، عبر التفاصيل التي تُبنى لبنة لبنة حتى تفضح البنية الذكورية العميقة للمجتمع دون الحاجة إلى شعارات.
لا ترفع مها راية “أنا أكتب خطابًا نسويًا”، بل تكتب عن نساء يتحدثن، يتأملن، يعشن في عالم يقيّد خياراتهن، ثم تترك القارئ يكتشف، وحده، كم هو هذا العالم ظالم، مراوغ، خبيث. إنها كتابة لا تدين الذكر بصفته، بل تكشف كيف تعمل السلطة الذكورية بوصفها نظامًا ثقافيًا وسلوكيًا متجذرًا في كل شيء: العائلة، الحب، القانون، واللغة ذاتها.
شخصية “شريف الحداد” مثال واضح على هذا النمط من الذكورة السائلة. لا يصرخ، لا يضرب، لا يُمارس عنفًا صريحًا مع إخوته البنات، لكنه يخذل، ينسحب، يتلاعب، يتفادى الالتزام، ويمارس نوعًا من “التخلي الناعم”. هذا هو الوجه الجديد للذكورية في عصر الحداثة الظاهرية: الرجل المثقف، المتعاطف، الذي يُبقي الباب مواربًا دائمًا، دون أن يمنح المرأة ما تستحقه من وضوح أو شراكة أو اعتراف. ومن خلاله، تفضح مها حسن كيف أن الظلم لا يحتاج إلى بطش، بل إلى تهرّب أنيق، وتواطؤ صامت.
الرواية أيضًا تسلط الضوء على الذكورة المجتمعية، تلك التي تُمارَس جماعيًا على النساء منذ الطفولة. تتجلى في حكايات الجارات، والأمهات، والحوامل، والنساء اللاتي يلدن تحت سلطة المجتمع قبل سلطة الطبيب. كل امرأة في الرواية تحمل أثرًا لسلطة ذكر ما: أب، أخ، زوج، حبيب، أو حتى مجتمع بأكمله يخفي قمعه في توصيات ناعمة مثل “احفظي كرامتك”، “اصبري”، “البنت لازم تتحمّل”.
وبدلاً من وضع هذه البنى تحت عدسة إدانة مباشرة، تُعيد مها كتابتها من الداخل. تجعل المرأة نفسها تروي الحكاية، وتُسلّط الضوء على اللحظة التي تفهم فيها أن ما عاشته لم يكن طبيعيًا، بل مهينًا، وأنها تستحق أكثر. لحظة الإدراك هذه – البسيطة والعميقة – هي بيت القصيد في الخطاب النسوي الذي تُمارسه الرواية.
وهكذا، دون أن تتحول إلى بيان نسوي مباشر، تصبح “حي الدهشة” بيانًا مضادًا للهيمنة الذكورية، لا عبر المواجهة، بل عبر استعادة الحكاية من فم الرجل وإعادتها إلى فم المرأة.
تقنيات روائية متشابكة: حين تتكلم الحواس وتتكشف البنى الذكورية
ليست التقنية السردية في “حي الدهشة” مجرد وسيلة لتزيين الحكاية، بل هي جزء من الحكاية نفسها، وجزء من خطابها النسوي. مها حسن تستخدم أدوات السرد لتقويض السائد، لتُربك تسلسل الأحداث المألوف، ولتمنح المرأة – أخيرًا – حقّ الكلام بطريقتها.
الرواية تُكتب بأسلوب تشظّي زمني ومكاني مقصود؛ لا تسير الأحداث على خط مستقيم، بل تتنقل بين طفولة “هند” في حلب، وحياتها في بيروت، وسفرها إلى لندن. وكأن الزمان نفسه لا يريد أن يخضع لمنطق السلطة الأبوية الصارم، فيرفض أن يُروى كما في الحكايات الذكورية “من البداية إلى النهاية”. هذا الشكل المتكسر في البناء السردي يماثل التشظي الداخلي للمرأة العربية، التي لم تعش حكاية متسلسلة، بل مُزقت بين الأدوار والحدود والهويات.
كذلك، تكتب مها بلغة مشبعة بالحواس: رائحة الحي، ملمس الجدران، طعم القهوة، نبض الجسد، ألم الولادة. وكأنها تُعيد كتابة التاريخ الأنثوي الذي طالما جرى حجبه تحت سلطة العقل الذكوري. الحواس هنا ليست تزيينًا، بل استعادة لطريقة المرأة في فهم العالم: بالعاطفة، بالتجربة، بالجسد.
ولا تكتفي الكاتبة بذلك، بل تُدخل أيضًا تقنية التكرار بوصفه مقاومة. تتكرر بعض المشاهد والذكريات، لا عن عجز إبداعي، بل لأن القمع نفسه يتكرر. الذكرى التي تعود في الرواية هي كالندبة التي لا تلتئم، وكل تكرار يحمل وجهًا جديدًا للوجع أو الإدراك. وهكذا، يصبح السرد وسيلة لتفكيك القهر، لا مجرد نقله.
حتى عندما تختار مها أن تمنح السرد إيقاعًا داخليًا أشبه بالمونولوغ الطويل، فهي لا تهدف إلى الاستغراق في الذات فقط، بل تجعل من الصوت الأنثوي مساحة للتفكير الحر، خارج إملاءات الذكور، المجتمع، وحتى القارئ نفسه.
بكل هذه الوسائط، لا تكتفي مها حسن بأن تُظهر قهر المرأة، بل تُجريه عبر شكل الرواية نفسها. فالسرد لم يعد فقط “ماذا نروي؟”، بل “كيف نروي؟”، و”من يروي؟” – وهي أسئلة جوهرية في قلب كل خطاب نسوي عميق.
بين السيرة والخيال: تداخل النصوص والحيوات كفعل مقاومة
تبدو “حي الدهشة” في ظاهرها رواية خيالية، لكنها في عمقها ليست بعيدة عن نبرة الاعترافات الذاتية، وكأن مها حسن تكتب سيرة امرأة لا نعرف إن كانت هي، أو إحداهن من اللواتي سمعتهن، أو مزيجًا منهن جميعًا. هذا التداخل بين السيرة الذاتية والخيال لا يُعَد ضعفًا في الشكل الروائي، بل هو اختيار واعٍ يحمل أبعادًا جمالية ووجودية.
المرأة الكاتبة، في المجتمعات الذكورية، غالبًا ما تُسكت، وإذا تكلمت يُقال إنها “تفضح”، أو “تبتذل”، أو “تعرّي خصوصياتها”. لذلك فإن دخول السيرة الذاتية إلى الرواية ليس مجازفة إبداعية فحسب، بل فعل مقاومة سردي. إن مها حسن لا تكتب من بعيد، ولا تختبئ وراء بطلاتها، بل تُغامر بجعل صوتها، أو صدى أصوات من يشبهنها، يتردد بوضوح، ولو عبر قناع روائي.
عبر البطلة “هند”، تسائل الكاتبة نفسها: ماذا يعني أن تكوني امرأة سورية عاشت في حلب، ثم أصبحت طبيبة، ثم خُذلت في الحب، ثم تهجّرت، ثم عادت لتواجه الحي ذاته وقد تغيّر… وربما تغيّرت هي أكثر منه؟ كل هذه التحولات تُروى بلسان امرأة واحدة، لكنها تحمل تحت جلدها ذاكرة جماعية نسوية: ذاكرة نساء الشرق، نساء الخوف، نساء الحب الصامت، نساء الرحيل والعودة.
هذا التوازي بين الخاص والعام، بين المتخيل والذاتي، يمنح الرواية قوة إضافية، لأنها لا تبحث عن البطولة في شخص واحد، بل في تجربة كاملة تُروى نيابة عن آلاف النساء. ومها، حين تكتب الحكاية وكأنها لها، لا تبحث عن مركزية الكاتبة، بل عن نزع المركزية عن السرد الذكوري التقليدي، لتصبح المرأة، للمرة الأولى، لا موضوعًا للكتابة، بل كاتبة تكتب عن نفسها.
خاتمة: حين تُروى المرأة بنفسها، لا عنها
في “حي الدهشة”، تبلغ مها حسن ذروة نضجها الروائي؛ لا لأنها قدّمت عملاً متقن البنية فقط، بل لأنها نجحت في تحويل الرواية إلى مساحة حرة للبوح النسوي، دون أن تقع في فخ الأدلجة أو الخطابية. رواية تنبض بالحياة، لا ترفع شعارًا، بل تفتح نافذة.
لقد قرأتُ لمها حسن من قبل، ورافقتُ صوتها عبر روايات مثل “حبل سري”، “قريناتي”، و”اللامتناهي”، وكل منها حملت ملمحًا خاصًا، ونبرة فريدة، لكنها جميعًا كانت تمهيدًا لصوتٍ أكثر اتساعًا ونضجًا تجلّى في “حي الدهشة”. إنها الرواية الأقرب إليّ، لأنها لم تكتفِ بتقديم امرأة حائرة أو موجوعة، بل امرأة تروي، تحاكم، تشتبك مع ذاكرتها، وتنتصر لها.
هذا الانتصار ليس صاخبًا، بل ناعمًا، متأملًا، محمّلًا بتفاصيل الذاكرة الحية التي لا تموت رغم الحرب، والخذلان، والابتعاد. إنه انتصار سردي، وجمالي، وإنساني.
وبينما أتهيأ لقراءة روايتها القادمة “مقام الكرد”، أشعر أن مها حسن لا تكتب فقط عن نساء هذا الشرق المنهك، بل تكتب لأجلهن، وبصوتهن، ومن داخلهن. وهذا تحديدًا ما يجعل من مشروعها الروائي واحدًا من أكثر المشاريع النسوية الأدبية صدقًا واستقلالًا في الأدب العربي المعاصر.
الرواية
- نشر سنة 2018
- 369 صفحة
- دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع
