في مستقبل بعيد، لم تعد السلطة تُقاس بالمال أو المظهر أو حتى الصوت. الرائحة وحدها كانت جواز مرور إلى كل شيء. منذ الثورة الكيميائية الثالثة، أصبح البشر يُصنَّفون حسب “عبقهم الداخلي”، رائحة متناهية الدقة تفرزها أجسادهم، لا يمكن تزويرها أو إخفاؤها… أو هكذا قيل.
رائحة النجاح كانت تشبه المزيج الدقيق بين خشب الصندل والعنبر. رائحة الفشل تُشبه ملابس رطبة تُركت في الظلام. أما رائحة الخيانة… فكانت لا تُطاق، مزيج من الكبريت والعفن والموت.
في الضواحي الشرقية لمدينة “دار العطر”، كانت “رُبى” تعيش. فتاة من طبقة الروائح الرمادية، لا هي ناجحة، ولا فاشلة، ولا خائنة. فقط بلا رائحة. هذا ما جعلها بلا مستقبل. لا عمل. لا زواج. لا فرصة للدخول إلى “المربع الذهبي” حيث يسكن أصحاب الروائح النخبوية.
رُبى لم تكن غبية. كانت تعرف أن الرائحة ليست كل شيء، بل ذريعة أخلاقية جديدة لإقصاء الفقراء والمعارضين. “الرائحة انعكاس للنية الداخلية”، هكذا تقول السلطات. لكن من يتحكم في فهم “النية”؟
عملت رُبى في مختبر صغير مهجور، كانت تجري فيه تجارب على النباتات المهجّنة. لكن ما لم يعرفه أحد، أنها كانت تسرق بقايا عرق من ملابس النخبة المرمية، وتبحث في تركيبتها.
شيئًا فشيئًا، بدأت تلاحظ النمط: الناجحون لا يفرزون تلك الروائح بفعل الإنجاز، بل بسبب تعديل هرموني يُحقن به أصحاب الولاء التام للحاكم. أما الفاشلون… فهم من لم يحضروا اجتماعات الولاء، أو من رفضوا إرسال أطفالهم إلى “أكاديمية الطاعة”.
رُبى قررت أن تصنع رائحة نجاحها الخاصة.
كانت المدينة مفصولة بحاجز شفاف. من جهة يعيش من تشبه رائحته المسموح، ومن الجهة الأخرى أولئك الذين يحملون “الروائح غير المرغوبة”. وكان هناك جهاز على كل مدخل، يشبه أنفًا عملاقًا، يُطلق إنذارًا إن شمّ رائحة غريبة.
صنعت رُبى تركيبة من العرق، والمسك المصنع، وهرمون الاصطفاف السياسي. استخدمت في تجاربها خلايا حية مأخوذة من قفاز مستعمل لسيدة من مجلس العطر الأعلى.
وفي الليلة التي قررت فيها التجربة، لم تكن ترتجف خوفًا، بل شوقًا.
ارتدت قميصًا أبيض، ووضعت القليل من العطر في نقاط النبض. مشت بثبات نحو الحاجز. عند الأنف الصناعي، توقفت. لحظة واحدة كفيلة بتقرير مصيرها.
لا إنذار.
عبَرت.
في الداخل، كانت الروائح كأنها لغة ثانية. كل شخص يتحدث عبر مسامه، يعبّر عن مكانته، عن طاعته، عن نواياه. ورُبى أصبحت تتكلم هذه اللغة فجأة، بلغة عطر مزيف لكنه متقن.
دخلت إلى مركز توظيف تابع لـ”مجلس النخبة”، وتمكنت من العمل كمساعدة في إدارة العطور السياسية، القسم المسؤول عن خلق الروائح الجديدة لخطابات الحاكم.
رأت عن قرب كيف تُصنّع رائحة “الكرامة الوطنية”، و”الانتصار رغم الحصار”، و”التضحية لأجل الزعيم”. كانت الروائح تُعبّأ في بخاخات سرية، وتُرش على الجموع قبل دخولهم المسيرات.
كل شيء كان خدعة.
كل شيء… ما عدا رائحة الخيانة. تلك لم يستطع أحد اصطناعها أو إخفاءها.
وفي أحد الأيام، دخلت سيدة من مجلس الأمن العطري، وقالت: “أحدهم تسرّب إلينا. يشبهنا في الرائحة، لكن ليس في النية. نريد تتبعه.”
رُبى ارتجفت.
بدأ التحقيق.
أُجريت فحوص نية متقدمة، لكن رُبى كانت قد حقنت نفسها بمادة تمنع قراءة النشاط العصبي.
بقيت آمنة.
لكنها أدركت أن اللعبة خطيرة. أن تزوير الرائحة ليس فقط اقتحامًا للمحرم، بل تهديد صريح لـ”نظام العطر”.
هنا اتخذت قرارها.
في منتصف الليل، تسللت إلى غرفة التحكم بالعطور. أفرغت عبوات “رائحة الطاعة”، وبدّلتها بخليط يجعل كل من يستنشقه يشم في نفسه رائحة “الخيانة”.
وفي اليوم التالي، عند مسيرة الولاء الكبرى، بدأ الناس ينهارون… يهربون… يصرخون بأنهم يشمون الخيانة على جلودهم.
النظام انهار.
بدأ الناس يشككون بأنفسهم، برؤسائهم، بزوجاتهم. لم تعد الرائحة مرآة اليقين. أصبحت وهمًا قابلاً للتشكك.
هربت رُبى إلى الضواحي مجددًا، لكنها لم تكن كما كانت. كانت تملك الآن السلاح الذي هزّ أساس المدينة: سؤال بسيط عن من يقرر الرائحة، ومن يملك أن يشم؟
لم تعد بلا رائحة.
كانت تحمل رائحة الثورة.
نشرت ١ حزيران في جريدة الأسبوع الأدبي السورية
