“كلنا سوريون”، جملة تُقال بكثير من العاطفة، وقليل من الصدق. شعار يُرفع في المناسبات، يُكتب على الجدران، ويُغنّى في الأغاني الحماسية، بينما الواقع يصرخ بما هو معاكس تمامًا.
في سوريا، صارت كلمة “سوري” مثل قالب عجين، يُفصّل على مقاس الطائفة، أو العشيرة، أو الموقف السياسي، أو مكان الولادة. “سوري” من هذا الحيّ وليس ذاك. “سوري” من الطرف الصح، لأن الطرف الآخر عميل أو متطرف أو مغسول الدماغ. الهوية صارت تُباع في السوق السوداء، وتُسحب في الحواجز، وتُناقش في برامج “التوك شو”، ويُحدّد ثمنها بحسب الرمز الذي ترفعه أو الشهيد الذي تبكيه.
هكذا، صارت “سوري” تهمة يمكن أن تضاف إليها لاحقة لتوضّح: سوري سنّي، سوري علوي، سوري كردي، سوري أصلي، سوري مندس، سوري لاجئ، سوري شبيح، سوري معارض، سوري نصف معارض، سوري كان مع النظام وصار المعارضة، سوري مكوّع، سوري ضد الكل… وكلنا نحمل نفس الرقم الوطني، لكننا نقتل بعضنا البعض وكأننا من قبائل لم تتصالح منذ الطوفان.
نحن في وطن لا يُعترف فيه بدم الضحية إلا بعد التأكد من فصيلتها السياسية. لا يُقرأ اسم الشهيد إلا بعد فرز انتمائه. لا تُقبل تعزية إلا بعد مراجعة سجل الولاء. صار علينا أن نُحزَنَ بمسؤولية، وأن نُدينَ باعتدال، وأن نُعلن إنسانيتنا بموافقة مسبقة من قادة الرأي فيسبوكيًا.
في سوريا، يموت الناس ميتتين: واحدة تحت القصف أو التعذيب، والثانية حين يُسأل عنهم: “مع مين كان؟”
هذه الـ “مع مين؟” صارت المعيار الجديد للكرامة. لم نعد نقيس الإنسان بما قدّمه، بل بما اختاره من خندق، حتى لو وُلد فيه ولم يختره.
أم الشهيد لا تُبكى كلها، بل تُقصّ كلماتها وتُجتزأ، حسب الحاجة، حسب المناسبة. والأب الذي فقد أبناءه الثلاثة يُمنح صك التضامن فقط إن كان “ابن ناس”، أي من الفريق الذي نرتاح له. أما إن كان من الطرف الخطأ، فربما “استاهل”، وربما تكون “العقوبة مستحقة”. يا للعار.
أما اللاجئ، فهذا فصل آخر من الهوية المهترئة. فبعد أن خسر بيته، وخيم تحت المطر، صار عليه أن يُثبت حسن سيرته الثورية أو الموالية، وإلا فلن يحصل على شيء… لا كرت غذاء، ولا كرت إنساني، ولا حتى شفقة.
وهكذا يتفتّت معنى “الوطن”، فلا يبقى منه سوى اللافتة عند الحدود، أو صورة باهتة معلقة في الصف المدرسي، أو طابور طويل أمام فرن.
هل كنا يومًا “كلنا سوريين” فعلاً؟ أم أننا خدعنا أنفسنا بتلك الجملة فقط لأننا كنا بحاجة إليها في لحظة ضعف؟
“كلكم سوريون؟”
سؤال يبدو ساخرًا، لكنه في جوهره اتهام… بل تشريح لجثة وطن اختنق بالتصنيفات، وتمزق بأيدي أبنائه، لا الغرباء.
وحدهم الضحايا يعرفون الجواب. الذين لم يسألوا عن اسم من أنقذهم من تحت الركام، ولم يتحققوا من ديانة من ضمد جراحهم. الضحايا لا يعرفون الطائفية. لا يُجيدون الانحيازات. هم فقط يريدون الحياة.
فلننظر إلى الوطن بعيونهم.
لا بعيون الشاشات، ولا منشورات التحشيد، ولا قنوات “التخوين الإخباري”.
ربما حينها نكتشف أن أنبل أشكال الوطنية… تبدأ بالسكوت قليلًا، والاستماع إلى الألم دون شرط أو قيد.
