عندما نتحدث عن الثقافة السورية، فإننا نتحدث عن أكثر من مجرد فنون أو موسيقى أو مسرح؛ إنها روح مجتمعٍ عاش تحت وطأة القمع لعقود، ومرّ بسنواتٍ من الحرب، وعانى من أزمة اقتصادية خانقة جعلت من الإبداع ترفًا لا يجرؤ كثيرون على التفكير فيه. واليوم، مع انهيار النظام الذي كان يفرض سطوته على المشهد الثقافي، يبرز التساؤل الأهم:
هل يمكن إحياء الثقافة السورية بعيداً عن القيود السياسية والتحديات الاقتصادية؟
وهل سنشهد يوماً مسرحاً سورياً حراً، وموسيقى تعبّر عن واقع جديد، وسينما تستعيد بريقها الغائب؟
الثقافة السورية تحت حكم النظام: من الإبداع إلى الترويض
لم يكن المشهد الثقافي السوري تحت حكم الأسد مشلولًا تمامًا، لكنه كان خاضعًا لتوجيه صارم ورقابة محكمة. لم يكن المسرح مساحة للنقد الحر، بل أداةً دعائية لتلميع صورة النظام، أو منبرًا لأعمال محايدة تتجنب الخوض في المحظورات. أما السينما، فكانت تعمل ضمن هامش ضيق من الحرية، وعندما سُمح لها بتناول بعض القضايا الجريئة، كان ذلك مدروسًا بعناية لخلق وهم الانفتاح من دون المساس بالخطوط الحمراء.
مع اندلاع الثورة السورية، تغير كل شيء. الفنانون والمثقفون انقسموا بين مؤيد ومعارض وصامت، ومع دخول البلاد في دوامة الحرب، أصبح الإنتاج الثقافي مشتتًا ومقموعا.
في عالم الموسيقى، لم يكن هناك سوى خيارين: إما ترديد الأناشيد التي تمجّد السلطة، أو البقاء في إطار الألحان التقليدية التي لا تثير أي جدل. حتى المثقفون الذين لم يدخلوا في مواجهة مباشرة مع النظام، وجدوا أنفسهم محاصرين بين الخطوط الحمراء، أو مُهمّشين تمامًا إن لم يُظهروا الولاء.
ماذا حدث للمشهد الثقافي خلال الحرب؟
مع اندلاع الثورة السورية، تغير كل شيء. الفنانون والمثقفون انقسموا بين مؤيد ومعارض وصامت، ومع دخول البلاد في دوامة الحرب، أصبح الإنتاج الثقافي مشتتاً ومقموعا.
لكن رغم ذلك، لم يمت الإبداع السوري، بل انتقل إلى فضاءات جديدة:
- في المخيمات، ظهرت فرق موسيقية وشعراء يحاولون إيصال أصواتهم رغم كل شيء.
- في المنافي، بدأ الفنانون السوريون بتقديم أعمال أكثر حرية، بعيدًا عن مقص الرقابة.
- حتى داخل سوريا، رغم القمع، وجد بعض المبدعين طرقًا لتمرير رسائلهم عبر وسائل غير تقليدية.
لكن الأزمة الاقتصادية جعلت الفن في الداخل من آخر الأولويات، فبين تأمين لقمة العيش والبحث عن الحد الأدنى من الخدمات، لم يعد هناك وقت ولا موارد للإنتاج الفني.
هل يمكن بناء مشهد ثقافي جديد؟ وكيف؟
اليوم، بعد سقوط النظام، نحن أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل الثقافة السورية من دون قيود سياسية أو خوف. لكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟
1- إعادة تأهيل المؤسسات الثقافية
كثير من دور السينما والمسارح والمراكز الثقافية دُمرت أو أُغلقت خلال الحرب. إعادة فتحها ليس مجرد إعادة تأهيل للبناء، بل إعادة خلق فضاء ثقافي جديد يكون مفتوحًا للجميع، من دون وصاية أو توجيه من أي سلطة سياسية أو دينية.
في البوسنة والهرسك بعد الحرب الأهلية، تم إنشاء مهرجان سراييفو السينمائي، الذي أصبح منصة دولية لإعادة بناء السينما البوسنية. سوريا تحتاج إلى شيء مماثل، سواء في السينما أو المسرح أو الفنون الأخرى.
2- إطلاق حركة مسرحية جديدة
المسرح السوري كان من أقوى المسارح في المنطقة، لكنه فقد بريقه بسبب الرقابة والتهميش. اليوم، يمكن أن يعود بقوة، ولكن بشروط:
- دعم المسرح المستقل بعيدًا عن أي تمويل حكومي قد يفرض أجنداته.
- فتح المجال للشباب لتقديم نصوص تعكس الواقع الحالي من دون أي محرمات.
- تشجيع المسرح في الأرياف والمخيمات، وليس فقط في المدن الكبرى.
في العراق، بعد سقوط صدام حسين، ظهر جيل جديد من المسرحيين الذين قدموا أعمالًا جريئة تتناول قضايا لم يكن يُسمح بالحديث عنها سابقًا، مثل الطائفية والفساد والانتهاكات. يمكن لسوريا أن تخوض تجربة مشابهة إذا أُعطي المسرحيون الحرية التي حُرموا منها طويلًا.
3- إعادة إحياء السينما السورية الحقيقية
لم يكن ينقص السينما السورية المواهب، بل المناخ الحر. واليوم، يمكن استعادة السينما من خلال:
- الإنتاج المستقل بعيدا عن هيمنة الدولة أو أي أيديولوجية.
- الاستفادة من التجارب السورية في الخارج، حيث برز العديد من المخرجين في أوروبا وأميركا.
- تقديم قصص جديدة، ليس فقط عن الحرب، بل عن الإنسان السوري وتجربته المعقدة.
في إيران بعد الثورة الإسلامية، رغم القمع، تمكن بعض المخرجين من تجاوز الرقابة بطرق إبداعية، وحققوا نجاحًا عالميًا عبر أفلامهم الرمزية. السينما السورية يمكنها أن تجد طريقها أيضًا، إذا توفرت لها بيئة إنتاج حرة وداعمة.
4- تمكين الموسيقى المستقلة
الموسيقى السورية عاشت لفترة طويلة بين الأغاني التقليدية وأغاني الولاء الإجباري، لكن المشهد تغير بعد الثورة، وظهرت فرق مستقلة داخل سوريا وخارجها. الآن، يمكن للموسيقى أن تزدهر مجددًا، عبر:
- دعم الفرق المستقلة التي تعكس الأصوات الجديدة للسوريين.
- إحياء الموسيقى التراثية بأساليب حديثة، بعيدًا عن الابتذال التجاري.
- إنشاء مساحات حرة للحفلات والعروض الموسيقية، دون رقابة أو شروط تعجيزية.
في لبنان بعد الحرب الأهلية، برزت موجة من الفرق الموسيقية الشبابية التي عبرت عن واقع جديد، بعيدًا عن الأيديولوجيات القديمة. يمكن لسوريا أن تشهد نهضة مماثلة إذا تم توفير البيئة المناسبة.
التحديات التي تواجه إحياء المشهد الثقافي
رغم الفرصة التاريخية، هناك تحديات كبيرة قد تعيق هذه النهضة الثقافية، منها:
التطرف الديني: هناك تخوف من أن تقع الثقافة السورية بين قمع جديد، سواء كان سياسيا أو دينيا.
الأزمة الاقتصادية: هل يستطيع المواطن الذي يكافح لتأمين الأساسيات أن يفكر في حضور مسرحية أو حفلة موسيقية؟
الهجرة المستمرة: معظم المثقفين والفنانين السوريين في الخارج، فهل يمكن إعادتهم، أو على الأقل خلق تواصل بينهم وبين الداخل؟
غياب الدعم المادي: أي مشروع ثقافي يحتاج إلى تمويل، فهل ستظهر جهات مستقلة لدعم المشهد، أم أن التمويل سيأتي مشروطا؟
هل يمكن أن نشهد نهضة ثقافية سورية؟
رغم التحديات، هناك فرصة نادرة لإعادة بناء الثقافة السورية على أسس حقيقية من الحرية والتنوع، بعيدًا عن أي وصاية.
إذا توفرت المساحات، والدعم المستقل، والانفتاح على التجارب العالمية، فإننا قد نرى سوريا جديدة، حيث يكون الإبداع أداة للتعبير عن واقع السوريين من دون خوف أو تقييد.
قد تكون رحلة طويلة، لكنها تستحق أن تُخاض. لأن أي أمة تحاول النهوض من الدمار، لا بد أن يكون فنها ومسرحها وموسيقاها جزءًا من عملية الشفاء والتعافي.
نشرت في موقع تلفزيون سوريا بتاريخ ١١ نيسان ٢٠٢٥

رأي واحد حول “الثقافة السورية.. هل تتحرر أخيراً من سطوة السلطة والخوف؟”