بعد أكثر من عقد من الدم والدمار، تبدو الهوية السورية كمرآة محطّمة تعكس أجزاء متنافرة من مجتمع كان يومًا ما متماسكًا رغم هشاشته. الحرب لم تكن مجرد صراع سياسي أو عسكري، بل كانت زلزالًا ضرب البنية العميقة للمجتمع السوري، فتشظى إلى طوائف ومذاهب، مناطق وولاءات، خطوط تماس بين جيران الأمس.

لكن السؤال الأهم الآن ليس من المسؤول؟، بل كيف نعيد لُحمة هذا المجتمع؟ كيف نبني هوية سورية جديدة تنبع من رحم الكارثة؟

هوية ما بعد الحرب: الفراغ والانبعاث

الحروب الكبرى تصنع صدمة وجودية، لكنها تفتح أيضًا المجال لإعادة تعريف الذات. وما بعد الصدمة قد يكون مساحة للانبعاث. الهوية السورية التي رُسمت لعقود على يد نظام استبدادي، تمحورت حول شعار زائف عن “وحدة وطنية” فوقية مفروضة بالقمع، لا بالقناعة. لكن السوريين اليوم باتوا يدركون أن الهوية ليست مفروضة من فوق، بل تُبنى من الأسفل، من القيم التي يتشاركها الناس رغم اختلافاتهم.

النسيج الاجتماعي: ما تهدّم وما تبقّى

التعايش السوري لم يكن دائمًا مثاليًا، لكنه كان واقعيًا. عاشت الأقليات والأكثريات جنبًا إلى جنب، في مدن مختلطة وقرى متقاربة، بتفاهمات غير مكتوبة. الحرب دمرت كثيرًا من هذا النسيج، لكنها لم تمحه بالكامل. ما زال هناك من يحنّ إلى ما قبل الانقسام، ما زال هناك من يساعد جاره من طائفة أخرى، من ينقذ غريبًا في بحر الهويات المتناحرة.

إن البناء لا يبدأ من السياسة، بل من الحياة اليومية. من المدرسة، والمشفى، والسوق. من قصة صداقة بين كردي وعربي في مخيم، أو من تعاون بين لاجئين علويين وسنة في الشتات. هذا هو اللبنة الأولى لهوية سورية جديدة.

قيم مشتركة: من أين نبدأ؟

لنعترف أولًا: لا يمكن العودة إلى “ما قبل 2011”. سوريا التي كانت، لن تعود. لكن يمكن أن نبني سوريا أفضل. ولعل القيم التي يمكن أن تجمع السوريين ليست تلك التي نادى بها النظام، بل القيم التي تنبع من التجربة الجماعية:

  • العدالة: الجميع ذاق الظلم، ومن حق الجميع أن ينشد دولة قانون لا طائفة فيها فوق القانون ولا جهاز مخابرات فوق المجتمع.
  • الحرية: ليست حرية فوضى، بل حرية التفكير، التعبير، والمعتقد.
  • الكرامة: أن يعيش السوري بلا إذلال، بلا اعتقال تعسفي، بلا مهانة عند حاجز أو مكتب حكومي.
  • الاعتراف بالآخر: لا مستقبل لسوريا إلا بالتعدد، إلا بالاعتراف بالهوية الكردية، والآشورية، والدرزية، والإسماعيلية، والسنية، والعلوية، والمسيحية، لا كمجرد تنوع ديكوري بل كجزء أصيل من النسيج السوري.

الشتات كفرصة

الشتات السوري ليس فقط تراجيديا النزوح، بل مختبر لإعادة بناء الهوية. السوريون في أوروبا، تركيا، لبنان، الأردن، والخليج يتعلمون العيش معًا من جديد. هناك فرص لصناعة سردية وطنية جديدة في المخيمات والمدارس والجامعات، حيث يلتقي المختلفون دون وصاية.

ختامًا: من أجل سردية جديدة

سوريا بحاجة إلى سردية جديدة، لا تبدأ من القومية ولا تنتهي بالطائفية. سردية تبني الإنسان السوري على أنه مواطن، لا تابعًا. سردية ترى في الألم المشترك أرضًا صلبة، لا شرخًا أزليًا.

ربما، كما يقول محمود درويش، “الهوية هي ما نُورث لا ما نَرث”، لكن ما نعيشه اليوم فرصة لصياغة إرث جديد. إرث يعترف بالماضي دون أن يُؤلهه، ويصنع من جراحه أرضًا لعدالة قادمة.

رأي واحد حول “الهوية السورية بعد الحرب: كيف نعيد بناء النسيج الاجتماعي؟

أضف تعليق