في زمنٍ غير بعيد، كان السوريون يتباهون بأنهم أبناء “اللغة”، وحماة القصيدة، وروّاد المسرح الملتزم. كانت ثقافتهم تتغذّى على دواوين نزار قباني، ومسرحيات سعد الله ونوس، ومحاورات المفكرين، ونقاشات لا تخلو من الشعر والفلسفة والسياسة. أما اليوم، فقد تحوّلت هذه الثقافة تدريجيًا إلى “بوست فيسبوكي”، و”حكمة إنستغرامية”، وتعليق يختصر العالم في شتيمة من ثلاث كلمات.

من نزار إلى “نزارجي”

كان نزار قباني يُكتب وتُكتب عنه. اليوم، يُستخدم اسمه كـ”فلتر” لجمل حب ممسوخة:

“علّمتني الحياة ألا أكون ضعيفًا إلا في حضرة عينيكِ…”
منشور مزخرف، مع قلب مكسور، وتوقيع: “بقلمي”، رغم أن صاحبه لا يفرّق بين “الضمير” و”ضمور اللغة”.

لم يعد نزار هو شاعر المرأة والوطن، بل أصبح أيقونة بصرية توضع بجانب “قهوة الصباح”، و”سقف الأمنيات”، في حين تُسرق جُمله وتُربكها علامات الترقيم.

سعد الله ونوس؟ من هذا؟

لو سألت اليوم عن سعد الله ونوس في معظم الصفحات الثقافية، قد تتلقى ردًا من أحد المتابعين:

“مع احترامي، بس بحسّه كان مع النظام…”

نحن جيل اختزل مسرح ونوس الذي صرخ يومًا: “نحن محكومون بالأمل”، إلى تعليقات سطحية مشككة، لأننا أصبحنا نقرأ عبر خاصية “السحب السريع” أكثر مما نقرأ عبر التأمل.

المقهى الأدبي صار جروب واتساب

كانت النقاشات الفكرية تبدأ في مقهى الهافانا وتنتهي بجدل وجودي. اليوم تبدأ على فيسبوك وتنتهي بحظر الطرف الآخر.

  • تكتب رأيًا: “أعتقد أن الثقافة اليوم بحاجة إلى مراجعة…”
  • يأتيك الرد: “انقلع يا عميل، روح اقرا لنزار اللي بتحبه، ما كلهم خونة!”

لم نعد نناقش، بل ننتصر. لا نبحث عن الحقيقة، بل عن عدد اللايكات. النقاش صار معركة، والسجال صار حرب شتائم.

“المثقف الجديد” يقتبس من مجهول

في السابق، كانت الكتب هي مصدر الحكمة. أما اليوم، فيكفي أن تكتب:

“قال أحدهم: لا تثق بأحد حتى ظلّك يتخلى عنك في الظلام.”

فيُشارك المنشور الآلاف، دون أن يتساءل أحد من هذا “أحدهم”. ربما هو شاب غاضب في غرفة نومه كتبها بعد انفصال عاطفي. لكن لا بأس، طالما أن العبارة عليها إطار أسود وصورة بنت حزينة، فهي فلسفة!

تراجيديا الثقافة السورية: بين قمع الأنظمة وقمع الخوارزميات

لا يمكن إنكار أن سنوات القمع والتدمير لعبت دورًا كبيرًا في هذه الانحدارات. المسرح خُنق، والشعر حُوصِر، والتعليم أُفرغ من مضمونه، ولم تبقَ سوى شبكات التواصل لتملأ الفراغ.
لكن بدل أن نصنع منها منبرًا، حوّلناها إلى حلبة صراخ.
توقّفنا عن إنتاج الثقافة، وصِرنا نعيد تدوير الألم والشتائم والميمز.

هل من عودة؟

ربما. فاللافت أن داخل هذا الضجيج، هناك جزر مقاومة. كتّاب شباب، صفحات أدبية، بودكاستات، وحتى منشورات تعيد الحياة لجملة من غسان كنفاني أو أبي حيان التوحيدي.

المطلوب اليوم ليس البكاء على نزار وونوس، بل محاولة صُنع “نزار وونوس” جديدين، يكتبان بلغة هذا العصر، دون أن يخونوا جوهر الثقافة.
فلنكن نحن من يُعيد للشاشة لون الكتاب، وللحروف وزنها، وللنقاش احترامه.

النقاش الثقافي المعاصر

فيما يلي مقتطفات من تعليقات رصدناها (أو تشبه تمامًا ما نراه كل يوم)، تعكس كيف تحوّلت الثقافة إلى معركة كيبورد:

منشور: “برأيكم ما أهمية المسرح في زمن الحرب؟”

تعليق: “يعني تركتو القصف وجايين تحكو عن مسرح؟! روح نام أحسنلك.”

منشور: “نزار قباني كان يكره الأنظمة القمعية…”

تعليق: “نزار؟ هاد تبع النسوان؟ خلّيكوا ساكتين أحسن!”

منشور فكري: “الحرية تبدأ من الوعي لا من الفوضى.”

تعليق: “منك إنت ما بقبل نصيحة، شفتك بتعلّق عند صفحة عدنان، ولك انقلع!”

منشور ساخر عن الفساد: “يبدو أن المسؤولين ينامون مرتاحين بينما الناس…”

تعليق: “ما حدا غصبك تعيش، إذا مو عاجبك سافر! ولا انت عميل متخفي.”

أحدهم نشر قصيدة حديثة من تأليفه، تعليق أول جاء:

“لك شو هالمسخرة! فوت نام بدل ما تكتب تفاهات.”

هذه التعليقات ليست مجرّد نكتة. إنها انعكاس لأزمة أعمق: غياب الحوار، والقراءة، والاحترام المتبادل. لقد صرنا نُقاطع جملةً لأننا لا نحب قائلها، ونُصنّف كل رأي على أنه خيانة أو غباء أو استعراض.

الختام

ربما لم نعد نقرأ “الخبز والزهور”، لكننا نستطيع أن نعيد زرع بذور المعرفة ولو في تربة رقمية.

قد لا نملك مقهى هافانا، لكن نملك حائط فيسبوك، فلنحوله إلى مسرح لا إلى مكبّ شتائم.

أضف تعليق