حين يكون الموقف أهم من المصالح، والكرامة أثمن من النجومية، يظهر الفرق الحقيقي بين الفنان الذي يحمل قضية، والآخر الذي يتحول إلى بوق دعائي لنظام مستبد. بين أولئك الذين وقفوا مع الحقيقة، والذين باعوا أرواحهم في سوق الولاء، تبرز سوسن أرشيد كواحدة من الأسماء التي بقيت نظيفة، لم تُلوثها حسابات المكاسب والخسائر، ولم تركع تحت سطوة الترهيب والترغيب.
عودة سوسن أرشيد إلى سوريا لم تكن على طريقة من بقي هناك يسبّح بحمد الأسد، ثم حاول تبرير جرائمه لاحقًا. على عكس مثلاً سلاف فواخرجي وسوزان نجم الدين، اللتين عاشتا في سوريا تحت مظلة النظام، تدافعان عنه وتشاركان في تلميعه، ثم، بعد سقوطه الأول، اختارت الأولى أن تواصل تمجيده وتبرير المجازر، بينما خرجت الثانية لتعلن أنها لم تكن تعرف “حقيقة ما يحدث”، وكأن الجرائم التي هزّت العالم كانت غائبة عن نظرها طوال عقد كامل! لم تغادر أي منهما سوريا كمعارضة أو منفية، بل ظلّتا جزءًا من ماكينة الدعاية، حتى حين بدأت بعض جدران النظام تتشقق.
أما سوسن، فلم تكن في هذا الركب. لم تستغل المنابر الإعلامية لتقديم خطاب مزدوج، ولم تحاول إيجاد تبريرات لما لا يُبرر. اختارت أن تظل ثابتة على موقفها، فدفعت الثمن مهنيًا لكنها لم تخسر احترام ذاتها ولا احترام جمهورها.
“نصف قرن رمضان”.. حين يكون العطاء أصدق من الكلمات
عادت سوسن أرشيد إلى سوريا، لكن ليس من بوابة الولاء، بل من باب الإنسانية. لم تعد لتظهر في مشهد من مشاهد الدراما المزيفة، بل في مكان يعكس حقيقتها. أول ظهور لها بعد العودة لم يكن على السجاد الأحمر، بل في مبادرة “نصف قرن رمضان” التي أطلقها فريق ملهم التطوعي، المبادرة التي تهدف إلى تقديم وجبات الإفطار للنازحين السوريين في المخيمات، حيث تعاني العائلات من ظروف إنسانية قاسية بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار.
فريق ملهم التطوعي ليس مجرد منظمة خيرية، بل هو أحد أنقى الأصوات التي خرجت من رحم الثورة السورية، أسسه مجموعة من الشباب السوريين، ليكون يدًا تمتد للمحتاجين في زمن القتل والتهجير. على مدار سنوات، لم يتوقف الفريق عن دعم اللاجئين والمحتاجين، من بناء مساكن لهم إلى توفير التعليم، والآن، من خلال مبادرة “نصف قرن رمضان”، يواصل الفريق دوره في إطعام من أفقرتهم الحرب. وجود سوسن بينهم لم يكن مجرد صورة دعائية، بل كان امتدادًا طبيعيًا لمسيرتها، حيث شوهدت تطهو وتساعد، لا من أجل الأضواء، بل لأنها تعرف جيدًا لمن يجب أن تكون ولاءاتها.
بين البطولة في الدراما.. والبطولة في الحياة
اليوم، حين ننظر إلى المشهد السوري، نجد أن بعض الممثلين والممثلات الذين كانوا يتحدثون عن القيم والإنسانية، قد تحولوا إلى أدوات في خدمة الطغيان، يقدمون أقبح العروض المسرحية على حساب دماء الضحايا. بينما هناك من لم يتنازل عن كرامته، ولم يخضع لصياغة النصوص الرسمية التي يُطلب من الجميع ترديدها.
لم تحظَ سوسن أرشيد بأدوار البطولة في زمن النظام البائد، لكنها حجزت لنفسها دور البطولة في الحياة، في موقفها، في اختيارها، في ثباتها. والآن، بعد أن سقط النظام، ربما ستكون البطولة من نصيبها أيضًا في الدراما، ولكن هذه المرة.. دراما حقيقية، تليق بمن لم يساوم على شرف الموقف.
