في بلادٍ أصبح فيها امتلاك الكهرباء رفاهية، والإنترنت معجزة، والاستيقاظ صباحًا دون صداع اقتصادي نوعًا من الكرامات الصوفية، بات الاستحمام بماء ساخن حدثًا نادرًا، يُذكر في الأساطير أكثر مما يُذكر في الحياة اليومية.

بعد غياب قسري لـ١١ سنة و٥٥ يوم بسبب نظام الأسد الهارب، قضيتُ عشرة أيام في دمشق، حيث كانت درجات الحرارة منخفضة، لكن فكرة الاستحمام بالماء الساخن لم تكن مرتبطة بالطقس بقدر ما كانت مرتبطة بمزاج شركة الكهرباء، وإمكانيات سخان الماء، ومدى توفر الغاز، ومواقف الحظ والقدر.

هنا، الاستحمام ليس مجرد عادة صحية، بل تجربة روحية، معركة وجودية بين الإنسان والماء البارد.


المشهد الأول: “يا ماء يا كهربا… لا تجتمعان أبدًا!”

في أحد الأيام، بعد أن شعرتُ بأنني أتحول إلى قطعة أثرية متحركة، قررتُ أن أخوض مغامرة الاستحمام. انتظرتُ عودة الكهرباء، وفور أن أضاء المصباح، هرعتُ إلى الحمام. لكنني كنتُ متفائلًا أكثر من اللازم.

بمجرد أن فتحتُ الصنبور، اكتشفتُ الحقيقة القاسية:
الماء موجود، لكنه بارد كأنني استخرجته مباشرة من جبال الألب!

والسبب؟ ببساطة، في سوريا لا يمكن للماء الساخن والكهرباء أن يجتمعا في نفس اللحظة، فإما أن تأتي الكهرباء ليكون الماء مقطوعًا، أو يأتي الماء في غياب السخان الكهربائي!

المشهد الثاني: “طقوس الشامان للاستحمام بالماء البارد”

عندما وجدتُ نفسي مضطرًا للاستحمام بالماء البارد، لجأتُ إلى الأساليب التقليدية التي طورها السوريون عبر السنوات لمواجهة هذا المصير، ومنها:

✔️ الأسلوب الصاعق: فتح الماء البارد دفعة واحدة، والاعتماد على “الصدمة الحرارية” لإنهاء الحمام خلال 20 ثانية فقط!
✔️ تقنية التجزئة: غسل جزء واحد من الجسم في كل مرة، ثم أخذ استراحة تأملية بين كل مرحلة وأخرى.
✔️ طريقة “الشاور التكتيكي”: استخدام الإسفنجة فقط، ورش الماء وكأنك تنفذ عملية عسكرية ضد الأوساخ.
✔️ أسلوب “أنا لا أحتاج إلى الاستحمام أصلًا”: تأجيل الاستحمام حتى إشعار آخر، وهو التكتيك الأكثر استخدامًا في فصل الشتاء.

المشهد الثالث: عندما يتحول الحمّام إلى مفاوضات دبلوماسية

السوري الذي يعيش في منزل فيه عدة أفراد يعرف أن الاستحمام ليس مجرد قرار شخصي، بل هو مفاوضات معقدة بين كل سكان المنزل.

  • “أنا إلي ساعة شغّلت السخان!”
  • “لا، أنا شغلته من قبل، بس الكهرباء قطعت.”
  • “إذا بدك تتحمم، ما عندي مشكلة، بس خليني أول واحد بعدك، لأنه الماء بيكون لسا دافي شوي.”

كل شخص يحاول اختيار اللحظة المثالية، لكن في النهاية، تكون المياه الساخنة قد انتهت قبل أن يصل دورك، وتجد نفسك مجبرًا على العودة إلى تقنيات الصدمة الحرارية.

المشهد الرابع: “أين اختفى سخان الغاز؟”

أثناء إقامتي، اقترح أحد الأصدقاء حلًا عبقريًا: “ليش ما تتحمم عالغاز؟”

أومأتُ بحماس، لكن بعد لحظات من التفكير، أدركتُ أن هناك عوائق:
🔸 أولًا، هل الغاز متوفر أصلًا؟ الغاز في سوريا أصبح مثل الشمس في الشتاء، يظهر لفترات قصيرة قبل أن يختفي.
🔸 ثانيًا، استخدام سخان الغاز مغامرة بحد ذاتها!، فأنت تقف هناك، تدعو الله أن لا ينطفئ فجأة وأنت مبلل بالصابون.
🔸 ثالثًا، إذا اشتغل السخان بشكل مثالي، فأنت محظوظ، وقد تكتب عن هذه التجربة يومًا ما كشهادة تاريخية.

المشهد الخامس: السوري في الخارج… عندما يصبح الحمام تجربة جديدة!

السوري الذي يغادر البلاد لأول مرة ويكتشف أنه يمكنه الاستحمام يوميًا بماء ساخن دون الحاجة إلى تخطيط مسبق يمر بعدة مراحل نفسية:

1️⃣ الصدمة: “يعني بس أفتح الحنفية، بيجي مي سخنة فورًا؟ عنجد؟!”
2️⃣ الإنكار: “لا أكيد في خدعة، يمكن الماء يخلص بعد 5 دقايق!”
3️⃣ الفرح المفرط: الاستحمام مرتين في اليوم كنوع من التعويض عن السنوات الماضية.
4️⃣ التكيف: يبدأ بالشعور بأن هذا هو الوضع الطبيعي، لكنه يظل يحمل الحنين إلى “طقوس الشامان”.

لماذا الاستحمام بماء ساخن رفاهية في سوريا؟

🔹 لأن توفر الماء الساخن يعتمد على معادلة معقدة تشمل الكهرباء، الغاز، والمياه، وكلها مصادر غير مضمونة.
🔹 لأن السوريين اعتادوا على التأقلم مع الأزمات، لدرجة أن تأجيل الاستحمام صار جزءًا من الحياة.
🔹 لأن الحلول المتاحة، مثل تسخين الماء يدويًا، تتطلب صبرًا إضافيًا لا يمتلكه الجميع.

خاتمة: هل هناك حل؟

في نهاية المطاف، يبقى الاستحمام بالماء الساخن في سوريا حلمًا مؤجلًا، لكنه ليس مستحيلًا. يكفي أن تتوافر العناصر الثلاثة (ماء، كهرباء، وغاز) في نفس اللحظة، وهو أمر نادر لكنه قد يحدث يومًا ما.

حتى ذلك الحين، سيظل السوريون يبتكرون أساليب جديدة للبقاء نظيفين دون أن يموتوا من البرد، وسيظل حلم الحمام الدافئ جزءًا من قائمة الأمنيات التي تشمل الإنترنت السريع، وانتهاء الطوابير، وتحسن سعر الصرف!


💡 ملاحظة: هذا المقال جزء من سلسلة “مشاهداتي في دمشق”، حيث أتناول يوميات الحياة في العاصمة بأسلوب ساخر، بين التحديات، والحلول الإبداعية، والقدرة الفريدة على تحويل الأزمات إلى طرائف يومية. 😆

أضف تعليق