في دمشق، لا أحد يتحدث عن امتلاك منزل بعد الآن، لأن هذا الحلم أصبح في مصافّ الأساطير، مثل العنقاء وإصلاح الكهرباء وانخفاض سعر الدولار. اليوم، حتى استئجار غرفة بحجم كف اليد يحتاج إلى حسابات فلكية، ومفاوضات دبلوماسية، وربما تدخل الأمم المتحدة لإنهاء الصفقة.

خلال إقامتي في العاصمة، حدثني صديق عن محاولته إيجاد مكاناً للسكن في دمشق، قال: قررت أن أستكشف عالم الإيجارات السورية، ظنًا مني أنني قادر على العثور على غرفة تناسب ميزانيتي. لكن بعد جولة قصيرة في السوق، أدركت أنني إذا كنت أريد استئجار شيء أكبر من خزانة الأحذية، فعليّ بيع كليتي فورًا! وتابع الصديق سرده:

المشهد الأول: “الغرفة المثالية… بحجم الثلاجة!”

أحد السماسرة عرض عليّ غرفة بحجم “المطبخ الصغير” داخل بيت عربي قديم، وقال لي بكل ثقة:
“الغرفة فيها كل شيء! جدران، باب، وحتى شباك صغير… بس الشباك يفتح على المطبخ، يعني ريحة الطبخ بتيجي مجانًا!”

سألته عن السعر، فأجابني بابتسامة وكأنه يقدم لي فرصة العمر:
“مليون ونص بالشهر… بدون فرش، بس إذا بدك سرير إسفنجة، منضيف مليون زيادة.”

هنا وقفتُ للحظة، متأملًا فكرة أنني سأدفع ما يعادل راتب سنة كاملة لموظف حكومي من أجل غرفة يمكنني لمس جدرانها بمجرد مد ذراعيّ!

المشهد الثاني: “شروط تعجيزية أكثر من طلب فيزا!”

للوهلة الأولى، قد تعتقد أن العقبة الأكبر هي الأسعار، لكن الحقيقة أن شروط الإيجار أصعب من قوانين الهجرة إلى أوروبا.

✔️ الدفعة المسبقة: يجب أن تدفع 6 أشهر مقدمًا، حتى لو كنت ستسكن لمدة أسبوعين فقط.
✔️ الكفيل: مطلوب كفيل سوري لديه أملاك، ويفضل أن يكون تاجرًا كبيرًا، لضمان أنك “شخص موثوق”!
✔️ الشروط الغامضة: بعض الملاك يشترطون “عدم الطهي بالمنزل”، أو “عدم استقبال الضيوف بعد الغروب”، أو حتى “عدم استخدام الماء بكثرة”!

في لحظة يأس، تساءلت: هل أبحث عن غرفة للإيجار أم عن وظيفة في الأمن القومي؟!

المشهد الثالث: “أرخص الإيجارات… خارج كوكب الأرض!”

بعض الأصدقاء اقترحوا عليّ البحث عن منزل خارج دمشق، حيث الأسعار قد تكون أكثر منطقية. لكن عندما نظرتُ إلى الخيارات، وجدتُ أنني بحاجة إلى سيارة دفع رباعي، وخريطة عسكرية، وربما مرشد سياحي للوصول إلى هناك.

  • بيت في الريف بسعر معقول؟ “بس بدك تتحمل المسافة… ساعتين للوصول إلى وسط دمشق.”
  • غرفة مشتركة مع شخص آخر؟ “ما في مشكلة، بس لازم توافق على قواعد الساكن الأصلي، مثل إغلاق الأنوار بعد السادسة مساءً وتناول الطعام في الخارج فقط!”

بعد مقارنة الأسعار، وجدتُ أن العودة إلى تركيا أو حتى أوروبا قد يكون أرخص من الإقامة في دمشق!

المشهد الرابع: “حلم التملك… لمن يمتلك كنزًا دفينًا!”

إذا كان الإيجار مستحيلًا، فماذا عن شراء عقار؟

سألت أحد السماسرة عن سعر شقة صغيرة، فأجابني:
“إنت شو مستثمر أجنبي؟ ولا معك ورث كبير؟”

ثم أضاف وهو يضحك:
“شقة 100 متر بمنطقة عادية… 2 مليار ليرة بس!”

حاولتُ حساب المبلغ بالدولار، لكنني توقفتُ عن التفكير عندما أدركتُ أن حتى لو عملتُ 100 سنة براتب جيد، لن أتمكن من شراء نصف غرفة صغيرة في حيّ شعبي!


المشهد الخامس: “هل نسكن في الخيال؟”

في نهاية رحلتي العقارية، أدركتُ أن السوري العادي لم يعد يفكر في شراء أو استئجار منزل، بل بدأ يعتمد على استراتيجيات إبداعية، مثل:

🔹 الإقامة مع العائلة إلى أجل غير مسمى.
🔹 تقسيم غرفة المعيشة إلى عدة “أجنحة” للسكن.
🔹 التفكير في حلول خيالية، مثل العيش في “الواقع الافتراضي”!

وفي بعض الحالات، قد يكون الحل الأخير هو إلغاء فكرة السكن بالكامل والعيش في العمل أو المقهى، حيث الإنترنت والكهرباء متوفرة مجانًا!

لماذا أصبحت العقارات رفاهية في سوريا؟

🔸 لأن أسعار العقارات تضاعفت خلال سنوات قليلة، بينما دخل المواطن ثابت وبالنازل منذ أيام الإمبراطورية العثمانية.
🔸 لأن أصحاب العقارات أصبحوا يتعاملون مع المستأجرين كأنهم رجال أعمال كبار يجب عليهم دفع تأمينات مقدسة.
🔸 لأن وجود بيت في سوريا أصبح علامة من علامات الطبقة المخملية، مثل امتلاك سيارة فاخرة أو السفر إلى أوروبا.

خاتمة: هل نبحث عن كوكب آخر؟

بعد عشرة أيام من البحث، توصل صديقي إلى نتيجة واحدة: السكن في سوريا لم يعد حاجة أساسية، بل ترفًا لا يحظى به إلا القلّة!

وهكذا، يبقى السؤال معلقًا: هل يمكن أن يصبح امتلاك غرفة صغيرة حلمًا واقعيًا في المستقبل، أم أن الحل الوحيد هو التفكير في حياة البدو والترحال؟

حتى ذلك الحين، سيستمر السوري في ابتكار حلول جديدة للسكن، والتحايل على الأسعار الجنونية، والبحث عن زاوية صغيرة يضع فيها رأسه ليرتاح من دوامة الغلاء المستمرة.


💡 ملاحظة: هذه المادة جزء من سلسلة “مشاهداتي في دمشق”، حيث أشارككم مشاهد حقيقية من الحياة اليومية في العاصمة السورية، بين الواقع المرير والقدرة السورية العجيبة على التأقلم مع المستحيل.

أضف تعليق