عندما يثور شعب على الظلم ويطيح بنظام مستبد، تبدأ رحلة البحث عن العدالة، لكن هذه الرحلة تكون محفوفة بالمخاطر. بين من ينادي بالمحاسبة العادلة وبين من ينادي بالانتقام، تصبح العدالة الانتقالية رقصة دقيقة على حبل رفيع. فكيف يمكن للسوريين، وقد حملوا لعقود إرث الجرائم والانتهاكات، أن يجدوا هذا التوازن دون أن يسقطوا في هاوية الانتقام؟
تجارب دولية: دروس وعِبر
لنبدأ بتجارب من دول أخرى، لعلها تكون نبراسًا لسوريا المستقبل. في جنوب أفريقيا، اختار نيلسون مانديلا ولجنة الحقيقة والمصالحة طريق الاعتراف والمسامحة. الجلادون اعترفوا بجرائمهم، والضحايا تسامحوا أو على الأقل قبلوا بالاعتراف كخطوة نحو السلام. لكن، تخيلوا لو كانت اللجنة في سوريا، وطلبوا من مسؤول أمني أن يعترف بمجزرة ارتكبها! على الأغلب، سيبدأ بإلقاء المحاضرات عن المؤامرة الكونية ثم يختتمها بمطالبة الضحايا بالاعتذار لأنهم “أساؤوا فهم رسائل الحب الوطنية”.
في رواندا، حيث تحولت الأرض إلى ساحة للدماء أثناء الإبادة الجماعية، جربوا نموذج المحاكم المجتمعية (Gacaca). الناس جلسوا على التراب، واعترف الجلادون أمام جيرانهم، وكان العقاب يتفاوت بين الخدمة العامة والسجن. لكن، في الحالة السورية، ربما ستتحول المحاكم إلى مسارح صراع عشائري، حيث يبدأ المتهم بالدفاع عن “شرف العشيرة”، ويطالب بتحويل الجلسة إلى “حكم بالعرف والتقاليد”.
أما في ألمانيا بعد النازية، فقد قامت محاكم نورمبرغ بمحاسبة رؤوس النظام، وتُرك المواطن العادي ليعيش مع عقدة الذنب. هل يمكننا أن نتخيل نورمبرغ سورية؟ القاضي يطلب من المتهمين الدفاع عن أنفسهم، فيرد أحدهم: “كل ما فعلته كان حماية للوطن، وأنا جاهز للموت من أجله، شرط أن تعطوني فيلا على الساحل وتهريبًا آمنًا!”.
العدالة في السياق السوري
السياق السوري معقد، ليس فقط بسبب ضخامة الجرائم، ولكن لأن النظام تفنن في تدمير مفهوم العدالة من أساسه. العدالة الانتقالية تتطلب قضاءً نزيها ومؤسسات فعالة، وهي أمور أقرب إلى الخيال في سوريا الحالية. قد نجد أن فكرة المحاسبة تتحول إلى مسرح كوميدي، حيث يُحاكم السارقون السابقون اللصوص الجدد. والضحايا يتساءلون: هل هذا ما حلمنا به؟
في سوريا، هناك خطر حقيقي من أن تتحول المحاسبة إلى انتقام، خصوصًا مع التداخلات الطائفية والقبلية. تخيلوا محكمة سورية تنظر في جرائم النظام، وفي القاعة يجلس الضحايا من كل المكونات. يبدأ القاضي بجملة: “ما بدي حدا يذكر الطوائف هون”، وينتهي الأمر بمشاجرة تنتهي بجلسة مصالحة على المناسف.
العدالة السورية المستقبلية
إذا استمر الوضع على حاله، قد نرى مشهدًا عبثيًا في المستقبل:
تلفزيون رسمي جديد يعرض برنامج “محاكم الشعب”، حيث يتم استدعاء المسؤولين السابقين، وفي كل حلقة يحاكمون واحدًا منهم بناءً على تعليقات المشاهدين عبر البث المباشر. البرنامج ينتهي دائمًا بعفو عام عن الجلاد بحجة “الضرورات الوطنية”، ويبدأ الجمهور بتجهيز المشانق للمذيع بدلًا من الجلاد.
الطريق إلى عدالة سورية مختلفة
ما الحل إذن؟ كيف نمنع تحول المحاسبة إلى دائرة جديدة من الانتقام؟ ربما يمكن للسوريين التفكير في الحلول التالية:
- إطار قانوني مستقل ودولي: الاعتماد على محاكم دولية لتجنب الانحيازات المحلية.
- لجان للحقيقة والمصالحة: على غرار جنوب أفريقيا، لكن بشرط أن تكون مدعومة بآليات للمحاسبة وليس فقط الاعتراف.
- تثقيف المجتمع: لا يمكن تحقيق العدالة إذا ظل مفهومها محصورًا بالثأر. يجب أن يفهم الجميع أن المحاسبة تعني بناء مستقبل أفضل.
- ضمان الحقوق الأساسية للضحايا: من التعويض المادي إلى المعنوي، يجب ألا تُنسى حقوق الضحايا تحت أي ظرف.
العدالة الانتقالية في سوريا لن تكون سهلة، لكنها ضرورية. على السوريين أن يدركوا أن السعي للعدالة ليس سلاحًا للانتقام، بل خطوة نحو الخلاص الحقيقي. فالهدف ليس استبدال الظلم بظلم جديد، بل كسر السلسلة التي حولت حياة السوريين إلى دائرة مغلقة من القمع والانتقام.
نشرت في موقع ألترا سوريا
بتاريخ ١٧ شباط ٢٠٢٥
