بعد غياب قسري لـ١١ سنة و٥٥ يوم بسبب نظام الأسد الهارب، قضيتُ عشرة أيام في دمشق، وهي مدة كافية لأدرك أن السوري لا يحتاج إلى شهادة في الدبلوماسية أو دورة تدريبية في فن التفاوض، فهو يمارس هذا الفن كل يوم، بل كل ساعة، مع كل عملية شراء مهما كانت صغيرة.

في الأسواق، حيث الأسعار تتغير أسرع من عناوين الأخبار، يتحول البقال إلى مفاوض محترف، ويتحول الزبون إلى دبلوماسي بارع في فن “المقايضة الكلامية”. أما النتيجة؟ فهي أشبه بمعركة تفاوضية حيث يحاول كل طرف إثبات وجهة نظره الاقتصادية وفقاً لظروفه.

المشهد الأول: “قديش السعر يا حجي؟”

في أحد الأيام، دخلتُ إلى بقالة صغيرة في وسط دمشق، حيث تتراص البضائع على الأرفف وكأنها جواهر ثمينة في متجر فاخر. نظرتُ إلى كيلو البندورة وسألتُ البائع، الذي كان يجلس خلف الميزان كأنه قاضٍ في محكمة اقتصادية:

  • “قديش السعر يا حجي؟”
  • “للبيع ولا للمشاهدة؟” أجابني مازحًا، قبل أن يضيف:
  • “15000 ليرة.. بس إلك 14000، لأنك زبون طيب.”

هنا أدركتُ أن الأسعار في سوريا لا تأتي مكتوبة بالحبر الثابت، بل تعتمد على قدرتك على المفاوضة، ومدى إجادتك للعبة “المزح والجد”.

المشهد الثاني: القواعد غير المكتوبة

من الواضح أن هناك قواعد غير مكتوبة للتفاوض مع البقال، منها:
✔️ القاعدة الأولى: لا تقبل السعر الأولي، فهذا مجرد “جس نبض”.
✔️ القاعدة الثانية: إذا قال البقال “السعر ثابت”، فاعلم أنه ليس ثابتًا على الإطلاق.
✔️ القاعدة الثالثة: إذا كنتَ “زبون دائم”، فأنت تستحق “خصم خاص”، حتى لو كان البقال قد رفع السعر قبلها بثوانٍ.
✔️ القاعدة الرابعة: لا تسأل عن الأسعار في بداية النهار، فالتجار يكونون في ذروة الثقة بالنفس، أما في المساء، فقد يصبحون أكثر مرونة لأنهم يريدون التخلص من البضاعة قبل الغد.

المشهد الثالث: المفاوضات تبدأ قبل السؤال

رأيتُ زبونًا يدخل البقالة ويبدأ التفاوض قبل أن يسأل عن السعر أصلاً. الرجل، الذي بدا خبيرًا في التعامل مع التجار، وقف أمام كومة البصل، ثم قال بصوت عالٍ وهو يهز رأسه بحسرة:

“البصل غالي هالأيام، الله يعين العالم!”

البقال، الذي يعرف هذه التقنية جيدًا، ردّ بابتسامة:
“والله يا حجي، نحن ما إلنا ذنب، الأسعار كلها نار.. بس مشانك، رح نعملك سعر خاص.”

وهكذا، حتى قبل أن يُذكر السعر، بدأ الخصم يتسلل إلى الفاتورة!

المشهد الرابع: الأسعار حسب الحالة النفسية

في سوريا، سعر البضاعة قد يعتمد على نفسية البائع أكثر من أي مؤشر اقتصادي عالمي. إذا كان مزاج البقال جيدًا، فقد تحصل على “سعر خاص”. أما إذا كان متوترًا أو مرهقًا بسبب انقطاع الكهرباء، فربما ستدفع أكثر مما كنت تتوقع.

وإذا كنت تريد نتيجة مثالية، فإن أهم مهارة تفاوضية يجب أن تمتلكها هي القدرة على إلقاء نكتة خفيفة. السوريون يحبون الضحك وسط الأزمات، وإذا استطعت إضحاك البائع، فقد تحصل على “خصم المزاح”.

المشهد الخامس: عندما يصبح البقال مستشارًا اقتصادياً

في إحدى المرات، كنتُ أسأل عن سعر السكر، وإذا بالبائع يضع يده على الميزان ويبدأ محاضرة اقتصادية كاملة:

“شوف، السعر اليوم مرتفع لأن الشحنات الجديدة تأخرت، والدولار طلع شوي، بس إذا بدك نصيحتي، اشتري هلأ، لأن بكرا ممكن يزيد أكتر!”

هنا أدركتُ أن البقال في سوريا ليس مجرد بائع، بل هو أيضًا محلل اقتصادي يقدم توقعات مبنية على “الحدس التجاري”، وربما يكون أدق من بعض التقارير الاقتصادية الرسمية!

المشهد السادس: المعركة الأخيرة عند الدفع

وبعد كل المفاوضات، يأتي اللحظة الحاسمة، عندما تضع النقود على الطاولة. هنا، يحدث المشهد النهائي:

  • الزبون: “ما بيطلع معنا شوي خصم تاني؟”
  • البقال (متنهّدًا): “خلاص، الله يرزقنا ويرزقك، لك خدها بـ13500، وادعيلي!”

وهكذا، يخرج الزبون من البقالة مبتسمًا، وهو يشعر وكأنه فاز بجولة دبلوماسية، حتى لو كان البقال قد أضاف فرق الخصم مسبقًا على السعر الأصلي!

لماذا أصبح السوري مفاوضًا بالفطرة؟

🔹 لأن الأسعار لا تخضع لقوانين واضحة، بل تتغير يوميًا بناءً على ظروف السوق، وتقلبات الدولار، ونفسية التاجر.
🔹 لأن القدرة على المفاوضة قد تعني توفير بضعة آلاف ليرة، وهو مبلغ قد يحدث فرقًا في حياة المواطن.
🔹 لأن ثقافة “البيع والشطارة” جزء من الحياة اليومية، ومن لا يتقنها قد يدفع أكثر من اللازم.
🔹 لأن السوري بطبيعته يعشق التحدي، وحتى شراء علبة لبن قد يتحول إلى مباراة تفاوضية.

هل تحتاج الجامعات إلى تدريس فن التفاوض السوري؟

بعد عشرة أيام من المشاهدات في دمشق، أدركتُ أن ما يدرّسه أساتذة التفاوض في أرقى الجامعات العالمية، يمارسه السوريون يوميًا مع البقال دون الحاجة إلى شهادة أو دبلوم.

في النهاية، لا يمكن لسوري أن يدخل بقالة دون أن يترك بصمته التفاوضية، وكأنها معركة بقاء يومية بين العقل والجيب.

والآن، بعد هذه التجربة، أعتقد أنني أصبحتُ أكثر استعدادًا لخوض أي مفاوضات مستقبلية، سواء في الأسواق أو حتى في الحياة!


💡 ملاحظة: هذه المادة ستكون الجزء الأول من سلسلة “مشاهداتي في دمشق”، حيث سأشارككم لاحقًا مشاهد أخرى من الحياة اليومية في العاصمة، بين الأزمات، والابتكار، والقدرة السورية الفريدة على التكيف.

أضف تعليق