بعد عقود من الحكم الحديدي، وبعد سنوات طويلة من الدم والدموع، رحل الطاغية. انتهت مسرحية “إلى الأبد” بطريقة لم يكن يتوقعها أحد، وربما لم يكن مؤيدوه يصدقونها حتى وهم يشاهدونه في منفاه الأخير… أو إلى محكمة الشعب، أو إلى مجاري التاريخ، لا فرق. لكن السؤال الأكبر الآن: هل انتهت المعركة حقًا، أم أننا على وشك الدخول في متاهة جديدة؟

حلم الثورة: كانت البداية مجرد حلم… فهل يتحول إلى كابوس؟

عندما خرج السوريون إلى الشوارع قبل أكثر من عقد، لم يكونوا يطالبون بأكثر من حقوقهم الأساسية: الحرية، الكرامة، والعدالة. لكن كما علّمنا التاريخ، فإن الثورات لا تُمنح، بل تُسرق أو تُشوّه أو تتحول إلى فيلم طويل من الفوضى والصراعات.

في الأيام الأولى بعد سقوط النظام، قد نشهد احتفالات صاخبة، أغاني وطنية تمتزج مع صيحات “الشعب يريد إسقاط الفساد” (نعم، هناك دائماً فاسدون جدد ينتظرون دورهم)، وحشود تهدم تماثيل الطاغية، بينما يتفرج البعض في صمت ويتساءلون: من التالي؟

الجولة الثانية: صراع القوى السياسية… أم لعبة كراسي موسيقية؟

ما إن يجف الحبر على وثيقة سقوط النظام، حتى يبدأ ماراثون السلطة، حيث كل حزب، فصيل، وميليشيا (عفواً، أقصد “كتائب الثورة”) يحاول فرض رؤيته لسوريا الجديدة.

  1. الإسلاميون الديمقراطيون سيعدوننا بحكم رشيد، مع تحذير مبطّن أن “العلمانية مؤامرة”.
  2. الليبراليون الجدد سيطالبون بدولة مدنية، لكنهم سيختلفون على معنى “مدنية” أكثر مما اختلفوا على إسقاط النظام.
  3. القوى العسكرية التي “حمت الثورة” سترى نفسها جديرة بالقيادة، لأنها “قدمت التضحيات”، وستبدأ باحتلال مواقع السلطة تدريجياً… فقط مؤقتًا، طبعًا.
  4. القوى العلمانية والمستقلون سيحاولون طرح مشاريع حقيقية، لكنهم سيجدون أنفسهم في معركة بين نيران الأيديولوجيات ونيران “الثورة المضادة”.

وهكذا، سنرى مؤتمرات وندوات وتصريحات متضاربة عن مستقبل سوريا، بينما المواطن البسيط سيتابع كل ذلك على فيسبوك، ثم يكتب تعليقًا ساخرًا: “أعيدوا لنا الطاغية… على الأقل كنا نعرف من هو العدو!”

الحكومة الأولى: هل تنجح أم تكون نسخة جديدة من الكارثة؟

بافتراض أن القوى السياسية قررت أخيرًا الجلوس إلى طاولة الحوار (بعد كسر بعض الكراسي على رؤوس بعضها البعض)، ستكون أول حكومة انتقالية أمام تحديات أشبه بمتاهة سريالية:

  • إعادة بناء دولة دمرتها الحرب، دون أموال لأن الجميع سرق كل شيء.
  • محاسبة مجرمي الحرب، لكن بطريقة لا تؤدي إلى حرب جديدة.
  • تحقيق العدالة الانتقالية، دون أن تتحول إلى انتقام عشوائي.
  • منع أمراء الحرب من إعادة إنتاج الطاغية السابق، لكن دون إشعال فوضى جديدة.
  • كتابة دستور جديد، دون أن يصبح كل فصيل سياسي “مالكًا حصريًا” للحقيقة المطلقة.

والمفارقة الكبرى؟
كل شخص في الحكومة سيتحدث عن “حقوق الإنسان” و”الشفافية”، بينما يجري في الكواليس إعداد صفقات تحت الطاولة لضمان أن المقاعد محجوزة للجيل الجديد من الطغاة الصغار.

ماذا عن المواطن؟ أم أن عليه أن ينتظر جولة أخرى من “الربيع”؟

وسط كل هذه الصراعات، سيحاول السوري العادي التمسك بأبسط حقوقه:

  • هل سأحصل على كهرباء هذا الأسبوع؟
  • هل ستتغير الأوراق النقدية أم ستبقى صورة الطاغية تلاحقني؟
  • متى ستتوقف أسعار العقارات عن الصعود الجنوني؟
  • هل سأتمكن أخيرًا من استخراج جواز سفر دون أن أدفع رشوة تعادل ميزانية دولة؟

والأهم من كل ذلك: هل انتهى زمن الخوف، أم أننا ببساطة استبدلنا ديكتاتورًا بآخر؟

هل الثورة انتصرت أم أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد؟

إن سقوط الطاغية هو مجرد مشهد واحد من المسرحية السورية الطويلة. قد يكون الفصل القادم أكثر إشراقًا، أو قد يكون مجرد إعادة إنتاج للكابوس. لا أحد يعلم. لكن إن كان السوريون قد تعلموا شيئًا واحدًا من كل هذه السنوات، فهو أن الثورة ليست لحظة، بل مسار طويل، مليء بالمنحنيات، والمفاجآت، وربما… النكسات.

والسؤال الآن: هل نحن مستعدون حقًا لما بعد الطاغية، أم أننا سنظل نبحث عن طاغية جديد؟

أضف تعليق