بين المكان والإنسان: تأملات في رواية إهانة غير ضرورية

“إهانة غير ضرورية”، رواية تتناول موضوعًا شائكًا قلّما قاربته الرواية العربية، حيث يتجلى فيها تعمّق الكاتب السعودي إياد عبد الرحمن في زوايا الظلم التاريخي والإنساني، مع توظيف لرمزية الإخصاء كأداة للتعبير عن العجز الجسدي والنفسي والاجتماعي. الرواية، الصادرة عن “منشورات تكوين” في 2023، تُسلط الضوء على نظام الأغوات الذي كان قائمًا في الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، متخذةً من مأساة طفل حبشيّ يدعى “آدم” محورًا لحكايتها.

الحبكة والشخصية المحورية

آدم، الطفل الذي دفع ثمنًا قاسيًا جراء جهل والدته، يفقد ذكورته ليُصبح مخصيًا، ويُرسل إلى المملكة العربية السعودية لينضم إلى نظام الأغوات. القرار الذي اتخذته والدته، ظنًا منها أنه سبيل للتقرّب إلى الله، يكشف عن شرور الجهل وبدائية التصورات عن الإيمان. ومنذ اللحظة التي يُجبر فيها آدم على ترك قريته، تبدأ رحلة معاناة مريرة تمتد لعقود.

الرواية ليست فقط عن الإخصاء الجسدي، بل عن الصراع الداخلي الذي يعيشه آدم مع ذاته ومع جسده. تتتبع الرواية حياته بدءًا من طفولته المضطربة، مرورًا بسنوات شبابه حين يعيش في ظل نظام الأغوات، وحتى لحظة انهيار هذا النظام في سبعينيات القرن الماضي. تتشابك الأحداث حين يرافق شيخ الأغوات في رحلة بحث عن زوجته وابنه، مما يضيف بعدًا إنسانيًا يعمق التجربة الروائية.

رمزية الإخصاء وأسئلة الهوية

الإخصاء في هذه الرواية ليس مجرد فعل جسدي، بل هو إسقاط نفسي واجتماعي. الرواية تطرح سؤالًا جوهريًا: هل العجز الجسدي يُلزم بالضرورة عجزًا نفسيًا أو روحيًا؟ آدم، الذي يعاني من حرمان الحب والعلاقات الطبيعية، يتحول إلى رمز لمعاناة البشر في مواجهة أدوار فرضتها عليهم ظروف لا سيطرة لهم عليها.

علاقة آدم بجسده معقدة ومربكة، وتزداد تعقيدًا عندما تتداخل مع مشاعره تجاه الآخرين. يظهر هذا جليًا في علاقته بأحد الشخصيات الثانوية، “راجح”، التي تكشف عن صراع داخلي بين ما يفرضه المجتمع وما يشعر به آدم في داخله. هنا تُثير الرواية سؤالًا آخر: هل كانت مثلية آدم النفسية ضرورية لعرض القصة، أم أنها نتيجة للعنف القسري الذي مورس عليه؟

البناء السردي والأسلوب

تميز إياد عبد الرحمن بأسلوب سردي غير مألوف، حيث يُروى النص من منظور آدم وهو عالق تحت حطام منزله الذي دمرته سيول جدة. هذا المشهد الكارثي يمنح الرواية بُعدًا ديستوبيًا ويُبرز رمزية الانهيار الجسدي والنفسي والاجتماعي. ينتقل الكاتب بين الماضي والحاضر بسلاسة، ما يعمّق تعاطف القارئ مع مأساة البطل.

اللغة بسيطة وعميقة في آنٍ معًا، خالية من التكلّف، لكنها محملة بدلالات وإشارات رمزية تُثري النص. ورغم التميز العام، يمكن ملاحظة مهارة عالية في الانتقال في النصف الأول من الرواية بين صوت الطفل وصوت الراوي الأكبر سنًا، وهو أمر أنجزه عبد الرحمن بطريقة احترافية.. 

العالم الهامشي والرسالة الإنسانية

“إهانة غير ضرورية” تأخذ القارئ إلى عالم هامشي شديد الخصوصية، حيث يمتزج الفقر المدقع بالتطور الباذخ للمكان المحيط. الأغوات، الذين يمثلون رمزًا للعجز المفروض، يتحولون أحيانًا إلى جلادين، كما في عقابهم الوحشي لشيخ ادعى الإخصاء. هذه المفارقات تُبرز كيف يمكن أن يتحول الضحية إلى جلاد حين يُتاح له ذلك.

الرواية تتجاوز كونها حكاية عن الأغوات لتصبح تأملًا في التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها. إنها دعوة للتفكير في معنى الأدوار التي تُفرض على البشر وفي المعاناة التي يولدها تصنيفهم ضمن أدوار محددة. آدم، الذي يعيش على الهامش، يُظهر قوة نادرة في مواجهة الحياة، دون أن يتحول إلى شخصية ثأرية، بل يبقى متمسكًا بإنسانيته، حتى وهو يواجه الإهانة التي لحقت به.

النهاية والتأثير

تتوج الرواية بنهاية عبثية حيث يُروى كل شيء بينما آدم ينتظر موته تحت الأنقاض. النهاية الديستوبية تُبرز هشاشة الإنسان أمام قوى الطبيعة، لكنها في الوقت نفسه تُثير أسئلة وجودية: هل كان كل ما مر به آدم ضروريًا؟ أم أنها إهانة غير ضرورية حقًا؟

تقييم عام

بجرأة نادرة وطرح غير تقليدي، نجح إياد عبد الرحمن في تقديم عمل أدبي مميز يُبرز هشاشة الإنسان وضعفه أمام ظروف لا يملك السيطرة عليها. الرواية ليست فقط شهادة على مرحلة تاريخية انتهت، بل هي تأمل إنساني عميق يستحق القراءة. ربما كانت هناك مساحات لم تُستغل بالكامل في تعميق بعض الشخصيات الثانوية أو توضيح تفاصيل حياة الأغوات بشكل أكبر، لكن هذا لا ينقص من قيمة العمل.

“إهانة غير ضرورية” هي واحدة من تلك الروايات التي تستدعي القارئ للتفكير مليًا في معنى العيش والكرامة والإنسانية، وتثبت أن الأدب السعودي قادر على ملامسة قضايا إنسانية عميقة بأسلوب فني راقٍ.

أضف تعليق