وقف الشيخ “قابض السماوات” في وسط ساحة القرية، رفع صوته، كأنه مؤذن القيامة:
- يا أهل الحي الطيبين! يا من تحبون الجنة ولا تطيقون نار جهنم! أبشركم، اليوم أتيتكم ببضاعة لم يأتها التجار ولا الرسل. اليوم، أبيعكم مقاعد في الجنة، مقاعد مضمونة، بأسماء أصحابها محفورة في لوح محفوظ!
ساد الصمت. العيون اتسعت، والشفاه اهتزت كأنها تستجدي الشرح.
- نعم، نعم، كما سمعتم! لكل منكم مقعد مخصص، إنما المقاعد محدودة! ومن أراد أن يضمن لنفسه مكاناً، فما عليه سوى أن يتبرع بشيء من مال الدنيا الزائل. بيت؟ حقل؟ بقرة؟ أي شيء ينفع! الجنة أغلى من كل ما تملكون.
في مساء نفس اليوم، انتقل الشيخ إلى منبر الجامع. الأذان كان طويلاً ومخيفاً، كأن الحي على وشك أن يُغلق أبواب السماء للأبد. وبعد الصلاة، صرخ في الناس من جديد:
- يا عباد الله، الجنة في متناول أيديكم، فلا تفوتوا الفرصة. الله يحب من ينفق في سبيله. وكل مقعد في الجنة هو صدقة جارية لكم ولأبنائكم من بعدكم. المقاعد تُحجز على مبدأ “من سبق لبق”.
بدأت الفوضى في القرية. “أم سعيد” باعت سجادة زفافها التي ورثتها عن أمها. “أبو حسن” باع خزانة بيته. الحاج “علي” قطع نخيله ليجمع المال. الجميع يهرعون إلى بيت الشيخ ليسجلوا أسماءهم.
وفي يوم جمعة مظلم، عندما صعد الشيخ المنبر ليلقي خطبته الجديدة، سأل شاب:
- يا شيخ، أخبرنا: كيف لنا أن نضمن أنك تملك مقاعد الجنة؟ وكيف وصلت إليك؟ هل رأيت الله بنفسك أم أنك سمسار؟
ساد المسجد صمت ثقيل كأن السماء سقطت فجأة. الشيخ ضحك، ضحكة أطول من المعتاد:
- أيها الغبي، أنا ظل الله على الأرض، وأنا أدرى بطرق السماء منك ومن أمثالك.
بعد أيام قليلة، صعد الشيخ “قابض السماوات” منبر الجامع مجددًا، وقد بدا عليه ثقل “الرسالة السماوية” التي يحملها. تنحنح طويلًا، ثم بدأ خطبته بصوت مهيب، كأن السماء تتكلم من حنجرته:
“يا عباد الله، في المنام رأيت ملاكًا ينزل من السماء، يحمل ورقة عليها أسماء الذين اشتروا مقاعدهم في الجنة. فرحتُ بكم، وتذكرت قوله تعالى: وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ. لكني حزنتُ لأني رأيت أوراقًا بيضاء لأسماء لم تُسجل بعد، فأدركت أن البعض منكم ما زال مترددًا! ألا تحبون أن يقال عنكم يوم القيامة: هؤلاء هم الذين أنفقوا في سبيل الله، فاشتراهم الله بمقعد في جنته؟”
ثم صمت الشيخ هنيهة ليعطيهم فرصة للتفكر، قبل أن يكمل بنبرة أكثر تأثيرًا: “يا إخوتي، الدنيا زائلة، والمال زائل، والبيوت زائلة… وما يبقى إلا مقعد في جنة عرضها السماوات والأرض. المقاعد محدودة، وموعد الحساب يقترب. أما زلتم تنتظرون؟ ألا تخشون أن تفوتكم هذه الفرصة العظيمة؟”
تدفق الناس نحو الشيخ بعد الخطبة كما يتدفق الماء من شلال. كان صوتهم يتعالى:
“خذ دكاني، يا شيخ!”
“خذ بقرتي، المهم أن أضمن الجنة!”
“يا شيخ، هذا مفتاح بيتي، اكتبني في اللوح المحفوظ!”
وفي كل مرة، كان الشيخ يبتسم ويكتب الأسماء في دفتره الكبير الذي سماه “سجل المقاعد السماوية”، محركًا ريشته ببطء كأنه يخط المصير.
مع ازدياد الإقبال على شراء “المقاعد السماوية”، نفدت المقاعد، ووقف الشيخ “قابض السماوات” على منبره معلنًا:
“يا عباد الله، البشر كثيرون، والجنة واسعة، لكن المقاعد محدودة. لا تخافوا، فقد بعث الله لي رؤيا جديدة: قسم VIP في الجنة، خاص بالأبرار الذين يضحون بأكثر مما يملكون!”
انطلقت الحملة الجديدة. الناس بدأوا ببيع كل شيء: منازلهم، أراضيهم، حتى أدواتهم اليومية. القرية التي كانت تضج بالحياة، أصبحت شيئًا فشيئًا أطلالًا خاوية، مجرد أرض فارغة. رحل سكانها بلا مأوى، حاملين أوراق “صكوك الجنة” التي وعدهم الشيخ بأنها المفتاح.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. في لحظة يأس وإيمان مفرط، قرر بعضهم أن الجنة تستحق أكثر من أموالهم. بدأوا ببيع بأعضائهم. كُلى، وأطراف، وحتى عيون، كل شيء صار قابلاً للبيع من أجل ضمان مقعد بين الملائكة. وصلت الأمور إلى حد الجنون حين بدأ البعض يُدفنون أحياءً، مقتنعين أن الموت المبكر هو الطريق الأسرع إلى الجنة.
بينما الناس يئنون تحت وطأة الفقر والجراح، كان الشيخ يعيش في قصر بعيد، بنى مصعدًا هائلًا قال إنه يوصل إلى الجنة مباشرة. لكن المصعد لم يعمل أبدًا.
وصلت أخبار الشيخ الراحل إلى السلطات المحلية. بعد تحقيق مطول، اكتشفوا عملية احتيال واسعة النطاق، وأُرسل محققون إلى القرية. قُبض على “الشيخ الجديد”، ووجهت له تهم النصب والاحتيال.
الناس، رغم أنهم فقدوا كل شيء، بدأوا يجمعون ما تبقى لديهم لدفع كفالة الشيخ. “لا يمكننا العيش بدونه”، قالوا. “إنه الوحيد الذي يعرف طريق الجنة!”
مر الزمن، واستمر الشيخ في خداع الناس حتى أصبح شيخًا عجوزًا. في قصره المترف، مات أخيرًا وسط خدمه وحرسه، ليعلن أهل القرية وفاته “كخبر سماوي”. دفنوه باحتفال ضخم، واعتبروا قبره مزارًا مقدسًا. صار الناس يتبركون بضريحه، آملين أن تفتح لهم بركاته أبواب الجنة.
بعد سنوات، ظهر رجل جديد في القرية، بعمامة أكبر وعصا أطول، يعلن نفسه “وريث سر المقاعد السماوية”. بدأ بنفس الخطاب:
“الجنة واسعة، والمقاعد محدودة!”
