لا تكاد تمر فترة إلا ونشهد عودة الحديث عن لباس المرأة في مجتمعاتنا الشرقية، وكأنه القضية الأولى والوحيدة التي تحدد مصير الأمة. يبدأ النقاش عادة من منصات الإعلام، ويمتد إلى المقاهي، والمنازل، وحتى أماكن العمل، حيث يتنافس الجميع في إصدار الأحكام ووضع القواعد، في مشهد يفضح رغبة دفينة بالهيمنة على الفضاء العام وتشكيله وفقًا لمقاييس أخلاقية تختلط فيها العادات بالدين، والجهل بالمصالح الشخصية.
الكواكبي والاستبداد: من السياسة إلى الأخلاق
يقول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد: “الاستبداد هو تغليب حكم الفرد أو القلة على حكم الجماعة”. لكن هذا التعريف لا ينحصر فقط في السياسة؛ فحين تفرض الأغلبية أو حتى الأقلية معاييرها الأخلاقية على الأفراد في الفضاء العام، فإن هذا شكل من أشكال الاستبداد، ربما يكون أخطر من السياسي لأنه يستهدف حياة الناس اليومية. إن الرقابة على لباس المرأة ليست إلا مظهرًا من مظاهر هذا الاستبداد الأخلاقي، حيث يتم تحويل ما هو “خاص” – أي حرية الاختيار – إلى “عام” يخضع لقواعد صارمة لا تقبل النقاش.
لباس المرأة والفضاء العام: ساحة صراع وهمية
تُعامل المرأة في مجتمعاتنا كرمز للشرف والعفة، في حين يُغفل تمامًا أنها فرد له حقوقه وحريته الشخصية. يتم التركيز على لباسها بوصفه عنصرًا يعكس أخلاق العائلة والمجتمع بأسره، مما يجعلها حبيسة قوالب اجتماعية تفرض عليها الالتزام بمعايير صارمة لا تعترف بتنوع الأذواق أو الاختيارات. والأسوأ من ذلك، يتم التعامل مع الفضاء العام وكأنه “ملك خاص” لتيار فكري معين يحق له فرض تصوره الأخلاقي على الجميع، ما يُحول المرأة إلى ساحة صراع وهمية.
التعدي على الحرية الشخصية: من اللباس إلى السيطرة
الهوس بلباس المرأة لا ينفصل عن رغبة أشمل في السيطرة على الأفراد وتقييد حرياتهم. يبدأ الأمر بتحديد ما تلبس المرأة، لكنه سرعان ما يمتد إلى ضبط كيف تتحدث، وكيف تتحرك، وكيف تفكر. إنها منظومة متكاملة هدفها الحفاظ على بنية اجتماعية استبدادية تخشى من أي نوع من التحرر، مهما كان بسيطًا.
ازدواجية المعايير: بين المرأة والرجل
المفارقة الصارخة تكمن في التناقض الواضح بين المعايير المفروضة على النساء وتلك المفروضة على الرجال. ففي حين يُسمح للرجل بحرية الحركة واللباس ووفي بعض الأحيان التعبير، يُعتبر كل خيار تتخذه المرأة تهديدًا أخلاقيًا محتملًا. وهذا التناقض ليس مجرد مصادفة، بل هو انعكاس لبنية اجتماعية تُكرِّس التفوق الذكوري على حساب المساواة والعدل.
أفكار إضافية: هل تتحرر المرأة يومًا؟
- لباس المرأة كرمز للهوية: بدلاً من أن يُترك للباس معنى شخصيًا يعبر عن الحرية والاختيار، يتم تحميله رمزية دينية واجتماعية وسياسية.
- تسييس الجسد: جسد المرأة يتحول إلى أداة للسياسة، حيث تستغله الأنظمة والجماعات لتبرير وجودها وتعزيز سيطرتها، سواء بفرض الحجاب أو بمنعه.
- المرأة كمسؤولة عن أخلاق المجتمع: يتم تحميل المرأة عبء أخلاقي ثقيل، وكأن انحراف المجتمع بأسره يتوقف على قطعة قماش تغطي شعرها أو لا.
الختام: الحرية ليست رفاهية
إن الهوس بلباس المرأة ليس سوى مرآة لواقع أعمق؛ واقع الخوف من الحرية. فالأنظمة الاستبدادية والمجتمعات التي تفتقر إلى الثقة بنفسها تلجأ دائمًا إلى قمع الأفراد تحت ذريعة الحفاظ على الأخلاق أو النظام العام. وكما يقول الكواكبي: “الاستبداد أصل لكل فساد”، فإن معالجة هذا الهوس تبدأ من فهم أصوله: رفض الاستقلال الفردي، وتغليب الوصاية على الشراكة، والخوف من التنوع الذي يُثري الحياة.
