منذ أن سقط نظام الأسد، وجدت الرواية السورية نفسها أمام مهمة استثنائية: إعادة سرد الحكاية السورية، تلك التي تم طمسها لعقود، وجعلها وثيقة إنسانية حية تعكس المعاناة والآمال. لكن، هل استطاعت الرواية فعلاً أن تكون صوتًا يعبر عن الذاكرة الجماعية؟
الرواية السورية ليست مجرد انعكاس للأحداث، بل هي شظية من ذاكرة شعب، تُكتب بدماء الضحايا وآمال الناجين، لتكون شاهدًا على حقبة قاسية ومرآةً للوجدان الجمعي الذي يبحث عن وطن بين الأنقاض.
الرواية كمرآة لآلام السوريين
الرواية السورية الحديثة لم تعد تهرب من الجراح؛ بل باتت تُغمس قلمها في الوجع لتسرد ما حدث. رواية مثل “الموت عمل شاق” للراحل خالد خليفة تمثل نموذجًا قويًا. يسرد خليفة قصة رجل يموت تحت نير الحرب، ويطلب من أبنائه دفنه في مسقط رأسه. رحلة نقل الجثمان عبر سوريا المنقسمة ليست مجرد سرد لحكاية عائلة، بل هي استعارة مؤلمة عن انكسار الجغرافيا والإنسان. الرواية تعري العنف الذي أصبح جزءًا من الحياة اليومية وتُظهر كيف تشوه الحرب العلاقات الإنسانية.
على الجانب الآخر، رواية “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لنفس الكاتب ترصد كيف تحولت حلب إلى مدينة تخنق أبناءها، وكيف تحول الخوف إلى أسلوب حياة. هذه الرواية لا توثق فقط صعود الديكتاتورية، بل تفضح تأثيرها العميق على الأفراد والمجتمع.
روايات فواز حداد: توثيق الصراع السوري
لا يمكن الحديث عن الرواية السورية دون الإشارة إلى أعمال فواز حداد، الذي يعد أحد أبرز الأصوات في توثيق الصراع السوري بأبعاده المختلفة. مثلاً في روايته “الشاعر وجامع الهوامش”، يغوص في علاقة المثقف بالسلطة وتطرح تساؤلات حول جدوى الثقافة في زمن القمع. حداد يُبدع في تفكيك الديناميكيات بين المثقفين والأنظمة السياسية، مسلطًا الضوء على التحولات التي أصابت المجتمع السوري في ظل عقود من القمع.
الرواية والذاكرة الجماعية: أين النجاح؟
الرواية، كفن، تواجه دائمًا خطر الوقوع في فخ الخطابية أو التكرار. بعض الروايات السورية نجحت في تقديم تجربة إنسانية أصيلة، مثل رواية “طبول الحب” للكاتبة مها حسن، التي تتناول الحب في ظل الحرب. تسلط الرواية الضوء على العلاقات الإنسانية وكيف تُجبر الحرب الأفراد على مواجهة أنفسهم وقراراتهم.
لكن هناك روايات أخرى سقطت في فخ الخطابية أو التحول إلى مجرد أرشيف للأحداث، دون أن تخلق بعدًا فنيًا. بعض الروايات التي حاولت استنساخ تجربة الحرب فشلت في منح القارئ تلك المسافة الضرورية للتأمل في عمق المأساة.
هل الرواية السورية توحد الذاكرة؟
سؤال جوهري يطرح نفسه: هل تستطيع الرواية أن تكون عاملًا يوحد الذاكرة السورية؟ الحرب شقت المجتمع إلى أطياف متصارعة، ولكل طرف روايته الخاصة. بعض الروايات انحازت لجانب معين، ما جعلها تفقد قدرتها على تمثيل الذاكرة الجماعية ككل.
نقد الذات والتحديات المقبلة
الرواية السورية بعد الأسد تواجه تحديات كبيرة. أولها، التحرر من قيود الرقابة الذاتية التي ترسخت خلال عقود القمع. ثانيها، القدرة على تجديد أساليب السرد لتجنب التكرار أو الوقوع في كليشيهات الحروب. ثالثها، البحث عن جمهور عالمي يفهم عمق التجربة السورية، دون الوقوع في فخ الاستشراق أو كتابة ما يريده الآخر.
خاتمة: الرواية كذاكرة حية
الرواية السورية اليوم ليست مجرد عمل أدبي، بل هي شظية من ذاكرة شعب. نجاحها يكمن في قدرتها على تحويل المعاناة إلى سرديات حية، تحافظ على إنسانية السوريين وتبقي جراحهم مفتوحة أمام العالم. ومع ذلك، تحتاج الرواية السورية إلى شجاعة أكبر لتقديم رؤية موحدة للذاكرة الجماعية، تلك التي تستطيع تجاوز الانقسامات وتعيد للسوريين إحساسهم بالوطن المفقود.
بين النجاح والإخفاق، الرواية السورية تظل حارسًا للذاكرة الجماعية، تتأرجح بين التوثيق والإبداع، وتظل شاهدة على مرحلة هي الأشد قسوة في تاريخ البلاد.
