على مدى أكثر من خمسة عقود، احتلت التماثيل والصور الرمزية لحافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد المشهد العام في سوريا، لتحول البلاد إلى ما يشبه معرضًا دائمًا لتمجيد الفرد. تشير تقارير غير رسمية إلى وجود ما يزيد عن 3000 تمثال لحافظ وبشار الأسد موزعة على المدن والبلدات السورية، إضافةً إلى مئات الآلاف، وربما الملايين من الصور والملصقات المنتشرة في الشوارع، المدارس، المؤسسات الحكومية، وحتى في المنازل.

هذا الانتشار المفرط لرموز شخص واحد يثير أسئلة عميقة حول نفسية المستبد وحاجته لتثبيت وجوده عبر الحجارة والصور. ولعل عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، عبّر عن هذه الحالة عندما قال: “المستبد يتجاوز الحد إذا رأى أن صبر المظلومين قد نفد.”

التماثيل: رموز السيطرة

تنتشر هذه التماثيل في الساحات العامة والمفارق الرئيسية، وغالبًا ما تتميز بحجمها الضخم وتصميمها المبالغ فيه. تحمل التماثيل رمزية واضحة تتعلق بالسلطة المطلقة والهيمنة، وتُظهر الأسد واقفًا، جالسًا، أو حتى “مُفكرًا”، في محاولة لتقديمه على أنه قائد حكيم لا يُخطئ. لكن الحقيقة وراء هذه التماثيل تكشف عن نظام يعتمد على عبادة الفرد لإحكام قبضته على المجتمع، وإلغاء أي مساحة للنقد أو التعبير الحر.

تمثل هذه التماثيل الوجه المادي لثقافة “عبادة الفرد”، حيث تُظهر الأسد واقفًا شامخًا أو متأملاً بحكمة مصطنعة. الهدف ليس فقط إظهار القوة، بل أيضًا تذكير الشعب بأن الأسد هو المحور الذي تدور حوله حياتهم. الكواكبي وصف مثل هذه الأنظمة بقوله: “الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس لتقديس جلاديهم.”

من تماثيل الأب إلى تماثيل الابن

بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000، لم تكتفِ السلطة السورية بالإبقاء على تماثيله، بل عمدت إلى نشر تماثيل جديدة لبشار الأسد، لتؤكد استمرارية “الأسد الأبدي”. استبدلت بعض التماثيل القديمة بصور جديدة تجمع الأب والابن معًا، وكأنهما وجهان لعملة واحدة.

في التحليل النفسي، تُمثل هذه التماثيل حاجة نفسية عميقة للمستبد لتأكيد وجوده واستمراريته. فالخوف من النسيان، ومن أن يُذكر كظالم أو قاتل، يدفعه لتشييد أوثانه في كل مكان. هذا السلوك يعكس رغبة في السيطرة على الأذهان حتى بعد الموت، وكأن المستبد يقول لشعبه: “أنا هنا، ولن تزول صورتي من ذاكرتكم أبدًا.”

أبعاد التماثيل الاجتماعية والنفسية

  1. الاستبداد البصري: هذه التماثيل ليست مجرد أعمال فنية، بل أدوات قمع نفسي. رؤيتها يوميًا تذكير مستمر بالسلطة المطلقة، ورسالة بأن الأسد حاضر في كل مكان، يراقب كل حركة.
  2. إلغاء الرموز البديلة: لم يُسمح في سوريا لأي رموز وطنية، ثقافية، أو دينية أن تنافس تماثيل الأسد. حتى صور الشخصيات التاريخية الكبرى، مثل يوسف العظمة أو صلاح الدين الأيوبي، أُبعدت عن الواجهة لصالح صور وتماثيل حافظ وبشار الأسد.
  3. الإذعان الجماعي: بناء التماثيل غالبًا ما يكون مشروعًا مفروضًا على المجتمعات المحلية، حيث تُجبَر البلديات والسكان على تمويل هذه المشاريع، في رسالة مفادها أن الشعب هو من يمجد قائده، حتى لو كان ذلك قسرًا.

الصور: انتشار أوسع وتمجيد أبعد

إلى جانب التماثيل، تأتي الصور التي تغزو كل زاوية، حتى في الأماكن الخاصة مثل المنازل والمحلات. تعليق صورة الأسد يصبح طقسًا يوميًا أشبه بما وصفه الكواكبي: “الاستبداد يجعل الناس كأنهم عبيد في سوق يُباعون ويُشترون بلا إرادة.”

توجد صور الأسد في كل زاوية تقريبًا. في المدارس، المكاتب، وحتى الأسواق، تُعلَّق الصور كجزء من طقوس الولاء. هذه الصور ليست مجرد زينة؛ هي شهادة ضمنية على انصياع المجتمع للنظام، حيث يتحول تعليق صورة الأسد إلى فعل يومي يضمن “النجاة” من الشبهات.

تحطيم التماثيل: رمز للمقاومة

مع اندلاع الثورة السورية في 2011، شهدت البلاد مشاهد تاريخية لتحطيم تماثيل الأسد، كرمز للتحرر من الاستبداد. كانت هذه اللحظات بمثابة انتقام رمزي من عقود من القمع، إذ حاول السوريون استعادة الساحات التي احتلتها تماثيل الطغيان لعقود.

الأبعاد الأخلاقية والثقافية

تماثيل الأسد ليست مجرد رموز للاستبداد السياسي، بل هي أيضًا مؤشر على أزمة أخلاقية وثقافية. فهي تُمثل تدميرًا للهوية الوطنية واستبدالها بثقافة الولاء لشخص واحد. هذه التماثيل ليست مجرد أحجار، بل أدوات لتكريس الخوف والهيمنة.

تماثيل الأسد لم تكن فقط رموزًا شخصية، بل أداة لإلغاء الرموز الوطنية الحقيقية. لم يسمح النظام السوري لأي رمز آخر أن يزاحم صور وتماثيل الأسد، في محاولة لإعادة تشكيل الهوية السورية وجعلها تدور حول شخصه. الكواكبي يقول: “المستبد يتصرف في شؤون الناس كما لو كانوا ملكًا له، فهو العدل والعقل والحكمة، ومن دونه الجهل والظلام.”

خاتمة: إرث ينهار

رغم كل الجهود لترسيخ تماثيل الأسد كجزء من الهوية السورية، انهار هذا الإرث تحت أقدام الثورة. مع انتصار الشعب في معركته من أجل الحرية والكرامة، سقطت هذه التماثيل وتمزقت الصور، لتصبح رمزًا للديكتاتورية البائدة. مشاهد تحطيم التماثيل وإزالتها من الساحات كانت إعلانًا واضحًا عن نهاية حقبة الظلم والطغيان وبداية عصر جديد.

في النهاية، التماثيل تُبنى لتُخلّد الذكرى، لكن تماثيل الأسد أصبحت دليلًا على حقبة مظلمة من القمع والاضطهاد، وليست إرثًا لمجد أو إنجاز. الثورة السورية لم تسقط التماثيل فقط، بل أسقطت معها أسطورة “القائد الأبدي”، لتكتب فصولًا جديدة من تاريخ يخلّد إرادة الشعب وكفاحه من أجل الحرية.

أضف تعليق