مع سقوط النظام، ستكون سوريا على أعتاب مرحلة جديدة تستدعي إعادة بناء مؤسساتها من الصفر، بما في ذلك الإعلام. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة في هذه المرحلة هو: هل يمكن أن يكون الإعلام في سوريا الجديدة صوتًا للشعب، يعبر عن همومه وآماله؟ أم أنه سيقع مرة أخرى في فخاخ السلطة، ليصبح مجرد صدى آخر يخدم مصالح القوى المسيطرة؟
الإعلام قبل الثورة: بين القمع ومحاولات كسر القيود
كان الإعلام السوري قبل الثورة أحد أهم أدوات النظام لترسيخ سلطته. تم تجريد الإعلام من وظيفته الطبيعية كوسيلة لنقل الحقيقة ومحاسبة السلطة، وتحول إلى منصة دعائية تُكرس عبادة الفرد وتُخفي المعاناة اليومية للسوريين. الإعلام الرسمي كان يتفنن في رسم صورة زائفة عن سوريا، يُظهرها كجنة استثنائية، ويُخرس أي صوت يعترض أو يكشف زيف هذه الصورة.
لكن وسط هذا المشهد القاتم، برزت محاولات فردية وشجاعة لكسر هذا الاحتكار الإعلامي. جريدة “الدومري” التي أسسها الرسام علي فرزات مطلع الألفية كانت مثالًا حيًا. تناولت الجريدة القضايا السياسية والاجتماعية بسخرية لاذعة، مما أكسبها شعبية واسعة. إلا أن النظام لم يسمح لها بالاستمرار، وأُغلقت بسرعة بقرار سلطوي يوضح مدى ضيق صدر النظام تجاه أي رأي مخالف.
محاولة أخرى كانت قناة “الأورينت”، التي بدأت كمشروع إعلامي تجاري وترفيهي لكنها اقتربت تدريجيًا من نبض الشارع قبل الثورة. رغم أنها لم تكن معارضة بشكل مباشر، إلا أنها قدمت محتوى مختلفًا ومتنوعًا لم يتماشى مع القالب الجامد للإعلام الرسمي، مما جعلها هدفًا لانتقادات النظام وضغوطاته.
إعلام النظام خلال الثورة: استمرار في التزييف والقمع
مع انطلاق الثورة السورية، لم يتغير دور إعلام النظام، بل تضاعف تأثيره كأداة تبرير وتضليل. استمر الإعلام الرسمي في أداء دوره التقليدي، لكن بحدة أكبر، متبنياً سردية “المؤامرة الكونية” التي حاول النظام من خلالها تشويه صورة الثورة وربطها بأجندات خارجية. قناة “الإخبارية السورية”، على سبيل المثال، أصبحت منصة لتشويه المتظاهرين، ووصفهم بالإرهابيين والمخربين، فيما كانت تنقل صورة مصطنعة عن “الاستقرار” في المناطق الموالية.
أحد أخطر أدوار إعلام النظام كان بث الكراهية وزرع الانقسامات الطائفية، محاولًا تحويل الثورة من حراك شعبي للمطالبة بالحرية والكرامة إلى صراع طائفي. كما اعتمد على الترويج لانتصارات وهمية للجيش والقوى الأمنية، متجاهلاً المجازر والانتهاكات التي تُرتكب يوميًا بحق المدنيين.
هذا الإعلام لم يكن مجرد وسيلة دعائية، بل تحول إلى شريك في القتل والقمع، حيث ساهم في تبرير الجرائم وتشويه الحقائق بشكل منهجي.
الإعلام خلال الثورة: منبر للشارع أم فوضى التبعية؟
على الجانب الآخر، مع اندلاع الثورة، ظهرت مساحات إعلامية جديدة حاولت أن تكون صوتًا للشارع السوري. الصحف المحلية والإذاعات والقنوات الناشئة، مثل “تلفزيون سوريا” الذي انطلق في إسطنبول، حملت شعار التغيير ونقلت معاناة السوريين بأمانة. هذه الوسائل الإعلامية حاولت تقديم صورة مغايرة للواقع السوري، ونجحت في توثيق الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها النظام.
“تلفزيون سوريا”، الذي تأسس في إسطنبول، كان تجربة فريدة في الإعلام السوري المعارض. القناة تمكنت من تقديم محتوى يجمع بين المهنية والتعبير عن هموم الشارع السوري، مما أكسبها ثقة واسعة. استطاعت القناة أن تكون منصة للسوريين في الداخل والخارج، تسلط الضوء على معاناتهم اليومية وتناقش قضاياهم بجرأة. هذه التجربة، رغم تحدياتها، تعد نموذجًا يمكن البناء عليه في الإعلام السوري المستقبلي، حيث توازن بين استقلالية القرار وتمثيل صوت الشعب.
سوريا الجديدة: أي إعلام نريد؟
في سوريا ما بعد سقوط النظام، يجب أن تكون الأولوية لبناء إعلام مستقل حقيقي، يُعبر عن الناس لا عن السلطة. هذا الإعلام يجب أن يكون بعيدًا عن التبعية لأي طرف سياسي أو اقتصادي، وأن يتمتع بالشفافية والمهنية.
الاستقلال المالي هو المفتاح. لا يمكن للإعلام أن يكون حرًا إذا اعتمد على تمويل مشروط. دعم الإعلام من خلال اشتراكات الجمهور أو موارد إعلانية غير مشروطة يمكن أن يوفر قاعدة مالية مستدامة.
التدريب المهني يجب أن يكون جزءًا من إعادة بناء الإعلام، لضمان أن القائمين عليه قادرون على العمل بمهنية وحيادية. الإعلام السوري الجديد يجب أن يكون منصة لمساءلة السلطة، لا خادمًا لها.
دروس من تجارب أخرى
يمكن للسوريين الاستفادة من التجارب الإقليمية. في تونس، ظهر إعلام حر بعد الثورة، لكنه سرعان ما تأثر بالتمويل الحزبي وضغوط المال السياسي. في مصر، بعد انقلاب 2013، عاد الإعلام إلى خدمة النظام العسكري، وفقد استقلاليته تمامًا. أما في ليبيا، فقد تحولت وسائل الإعلام إلى منابر لخدمة الأطراف المتصارعة، مما عمّق الانقسامات.
هذه التجارب تُظهر أن الإعلام المستقل يحتاج إلى حماية قانونية ومجتمعية، وليس فقط رغبة في التغيير. البيئة السياسية في سوريا الجديدة يجب أن تضمن حرية التعبير وتحمي الإعلام من التدخلات.
الإعلام: عمود الديمقراطية أم عكاز السلطة؟
الإعلام ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هو أداة أساسية في بناء الديمقراطية. إذا كان الإعلام في سوريا الجديدة خاضعًا للسلطة أو للممولين، فإن البلاد ستعيد إنتاج نفس أنماط القمع التي ثارت ضدها. الإعلام المستقل يجب أن يكون منصة تنقل الحقيقة، تعبر عن تنوع المجتمع السوري، وتحاسب السلطة دون خوف.
الخاتمة: الإعلام بين الحلم والواقع
الإعلام المستقل هو حلم كل مجتمع يطمح إلى الحرية. في سوريا الجديدة، سيكون للإعلام دور محوري في تحقيق العدالة وبناء الدولة الديمقراطية. لكن هذا الحلم لن يتحقق إلا إذا حظي الإعلام بحماية من التدخلات السياسية والاقتصادية، وتمتع بالحرية ليكون صوتًا للشعب، لا صدى للسلطة. تجربة مثل “تلفزيون سوريا” تُظهر أن الإعلام الذي يعبر عن نبض الشارع ممكن إذا ما توفرت الإرادة والبيئة المناسبة، لكنه يحتاج إلى تطوير مستمر ليواكب تطلعات السوريين في بناء وطن جديد.

رأي واحد حول “الإعلام في سوريا الحرّة: عمود الديمقراطية أم عكاز السلطة؟”