فيصل القاسم، الإعلامي السوري الذي بات وجهًا مألوفًا في كل بيت عربي، تجاوز دوره كمقدم برامج ليصبح ظاهرة إعلامية وسياسية تُثير الجدل وتفتح أبواب النقاش على مصراعيها. عبر سنوات عمله في برنامج “الاتجاه المعاكس”، استطاع القاسم أن يحطم القواعد التقليدية للإعلام، ويُعيد تعريف الحوار السياسي في العالم العربي، لكن رحلته ومواقفه كانت دائمًا مثار إعجاب وانتقاد في آنٍ واحد.
من قرية الثعلة إلى منصة الجزيرة
وُلد فيصل القاسم عام 1961 في بلدة الثعلة بمحافظة السويداء، وترعرع في بيئة متواضعة. حملته ظروف حياته المبكرة على التمسك بالتعليم كوسيلة لتحقيق طموحاته، فبرز كطالب متميز. لاحقًا، انتقل إلى بريطانيا ليحصل على درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، وهو ما أضاف إلى شخصيته بُعدًا عالميًا جعله قادرًا على الجمع بين الجذور الريفية السورية والانفتاح الفكري الغربي.
لكن القاسم لم يكتفِ بإنجازاته الأكاديمية. كانت رحلته المهنية الإعلامية هي المحطة الفاصلة في حياته. ومع انتقاله إلى قناة الجزيرة، أصبح اسمه مرتبطًا ببرنامج “الاتجاه المعاكس”، الذي جعل منه منصة للاصطدام بالأفكار وكشف المستور.
“الاتجاه المعاكس”: ساحة الصراع الفكري
“الاتجاه المعاكس” ليس مجرد برنامج حواري، بل هو ظاهرة إعلامية عربية فريدة. بأسلوبه الحاد وأسلوب طرحه الاستفزازي المدروس، جعل القاسم برنامجه مساحة للاشتباك الفكري بين الآراء المتناقضة. كانت كل حلقة بمثابة معركة أفكار تُشعل الجدل في المنازل والمقاهي وحتى على منصات التواصل الاجتماعي.
لكن هذا النجاح لم يكن خاليًا من الانتقاد. فقد اتهمه البعض بأنه يثير الانقسامات بدلًا من تعزيز الحوار البناء، وأنه يعتمد على الإثارة أكثر من الحلول. مع ذلك، ظل القاسم مدافعًا عن نهجه، مؤكدًا أن “الإعلام الحقيقي يجب أن يحرك المياه الراكدة، حتى لو أثار العواصف.”
القاسم والثورة السورية: التزام لا حياد فيه
مع اندلاع الثورات العربية، كان فيصل القاسم من أوائل الإعلاميين الذين اتخذوا موقفًا واضحًا لدعم الشعوب الثائرة. ومع الثورة السورية، أصبح صوته صدى لآلام السوريين الذين ينشدون الحرية والكرامة. لم يتردد في مهاجمة النظام السوري بشكل مباشر، مؤكدًا أن “الحياد في هذه القضية هو خيانة.”
هذا الموقف الواضح جعله هدفًا لهجمات من أنصار النظام، وحتى من بعض المعارضين الذين اختلفوا معه في الأسلوب. لكن القاسم ظل ثابتًا على مواقفه، معتمدًا على الكلمة كسلاحه الأقوى، مهما كانت التبعات.
مقدمات تشتعل على الشاشات وتُشفي الغليل
من أبرز ملامح مسيرة فيصل القاسم مقدماته النارية في برنامج “الاتجاه المعاكس”. تلك الدقائق الأولى التي كانت كافية لإشعال الأجواء قبل بدء الحوار. بلغة حادة وأسلوب مباشر، كان يفتح النار على القهر والظلم، ويُشفي غليل ملايين السوريين والعرب الذين رأوا في كلماته صدىً لمعاناتهم.
كانت مقدماته أكثر من مجرد افتتاحيات؛ كانت صرخات ضد الطغيان، وخطابات تُحفز المستضعفين. بالنسبة للكثيرين، كانت تلك الكلمات أشبه برسائل أمل وجرعات من التحدي. ورغم ما أثارته من جدل، ظلت هذه المقدمات علامة فارقة في أسلوب القاسم الإعلامي.
من الشاشة إلى وسائل التواصل
لم تتوقف مقدمات القاسم عند حدود الشاشة. بفضل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت مقاطع هذه المقدمات مادة متداولة بين الناس، تُشارك آلاف المرات، وتُستخدم كرسائل احتجاج أو تعبير عن الغضب الشعبي.
عبارات مثل “هذا ما كنا نريد أن نقوله” أو “فيصل قال ما لم نجرؤ على البوح به” أصبحت تتصدر التعليقات. البعض اعتبره لسان حال الشعوب، بينما رأى آخرون في خطابه حدة قد تؤجج الصراعات. ورغم الانتقادات، لا يمكن إنكار أن صوته يصل إلى الجميع.
رجل بين الحب والكراهية
فيصل القاسم هو حالة استثنائية في الإعلام العربي. لا يمكن أن تقف على الحياد تجاهه؛ إما أن تحبه وتقدره لشجاعته وصراحته، أو تختلف معه وتنتقد أسلوبه الحاد. لكنه في النهاية رجل اختار أن يكون في وجه العاصفة، مؤمنًا بأن الكلمة تستطيع أن تغير الواقع.
رغم كل الجدل حوله، لا يمكن إنكار أن القاسم شخصية لا يمكن تجاهلها. هو رجل أثار النقاشات وأطلق العنان للأفكار، وسواء أحببته أم انتقدته، فإنه يظل صوتًا جريئًا في عالم يحتاج إلى مثل هذه الأصوات.
شهادة في فيصل القاسم
أكتب هذه الشهادة وأنا على يقين بأن فيصل القاسم ليس مجرد إعلامي، بل هو إنسان يحمل هموم وطنه وشعبه على عاتقه. لم يسعَ يومًا إلى إرضاء الجميع، بل فضّل أن يكون صوتًا للجرأة والحقيقة، حتى لو أثار ذلك موجات من النقد.
إذا كانت الكلمة تملك قوة التغيير، فإن فيصل القاسم هو أحد أولئك الذين أدركوا هذه القوة واستخدموها بشجاعة. في عالم مليء بالمجاملات الإعلامية، يبقى القاسم نموذجًا للرجل الذي يضع قناعاته فوق كل اعتبار. هو صانع جدل، نعم، لكنه أيضًا صانع أمل لمن لا صوت لهم.


