عندما نقف أمام المرآة اليوم، نحن السوريين، ماذا نرى؟ أهو وجه مشوّه بالدماء والدموع؟ أم ظلال شبح تبحث عن ملامحها التي ضاعت بين الركام؟ بعد أكثر من عقد من الحرب والصراعات، باتت المرآة التي نعكس فيها أنفسنا مشوشة، مليئة بالشروخ، تعكس حقيقة لا يمكن الهروب منها: تغيرنا، ولم يعد بإمكاننا إنكار ذلك.
من نحن الآن؟
كنا نتباهى بوطننا كأنه لوحة فسيفساء؛ موزاييك من الثقافات والأديان والأعراق، متناغم رغم تناقضاته. اليوم، هذه اللوحة تحولت إلى شظايا متناثرة، بعضها يبحث عن مكانه في الشتات، وبعضها غارق في صراع وجودي داخل الحدود المحترقة. نحن لم نعد مجرد شعب، بل شرائح مجزأة، كل منها تحكي قصتها الخاصة عن البقاء، عن العجز، وعن الخيانة أحيانًا.
الوطن بين الأطلال والمنافي
سوريا كفكرة تجاوزت جغرافيا المكان. أصبحت بالنسبة لكثيرين منا فكرة هلامية؛ الوطن صار أحيانًا صفحة في كتاب تاريخ، وأحيانًا أخرى قصة تُروى لأطفالنا في المنافي. لكن هل الوطن هو فقط تراب؟ أم أنه إحساس بالانتماء؟ وهل يمكن أن نشعر بالانتماء لوطن خذلنا وخذلناه؟
هذه الأسئلة تؤرق كل سوري يحدّق في المرآة، سواء في المهجر أو بين أنقاض الوطن.
المرآة لا تجامل
الحرب كشفت كل شيء: وجوهنا الحقيقية، طوائفنا، انتماءاتنا، وجشعنا. لم تكن مرآتنا هذه المرة مصقولة، بل أظهرت أوساخنا كلها؛ كيف خان الأخ أخاه، وكيف باع البعض قضيتهم، وكيف ترك البعض الآخر الصراع ليغرق في بحار الأنانية أو التواطؤ.
في المرايا المكسورة، نرى وجوهًا تواطأت مع الطغاة، أخرى احترفت استغلال دماء الأبرياء، ووجوهًا ابتعدت تمامًا، صارت تشاهد المعاناة كأنها فيلم مأساوي من إنتاج “هوليوود الشرق الأوسط”.
نقد الذات: هل فقدنا البوصلة؟
نحتاج أن نسأل أنفسنا بجرأة: هل كنا ضحايا فقط؟ أم أن في داخل كل منا طاغية صغير؟
نحن الذين نلعن الدكتاتورية، هل مارسنا في لحظات ضعفنا ديكتاتورية مشابهة؟ في كل بيت، في كل حي، وفي كل جماعة؟
كيف نلوم العالم على صمته، ونحن صمتنا عندما طُحنت مناطق بأكملها؟
كيف نشكو الظلم ونحن أحيانًا كنا أداة الظالم، نبرر له ونصفق؟
ما بقي لنا؟
بعد كل هذا، هل يمكننا أن نغفر لأنفسنا؟
الغفران ليس نسيانًا، بل هو مواجهة شجاعة مع أخطائنا، اعتراف بضعفنا، ثم محاولة لإعادة بناء ما تهدم. المشكلة أن “سوريا الجديدة” لا يمكن أن تُبنى على نفس الأسس التي قادتنا إلى هذا الانهيار.
نحن بحاجة إلى أن نكسر المرآة القديمة. أن نبني مرآة جديدة، لا تعكس فقط الوجوه الجميلة، بل أيضًا الجروح والندوب. هذه المرآة ستذكرنا دومًا أن الوطن ليس مجرد كلمة أو شعار، بل مسؤولية مشتركة.
أخيرًا… هل يمكننا أن نحب أنفسنا مرة أخرى؟
المشكلة الكبرى ليست فقط في الوطن الذي فقدناه، بل في أنفسنا التي أضعناها. لكي نعود إلى سوريا، يجب أولًا أن نتصالح مع مرآتنا، أن نرى الحقيقة كما هي، مهما كانت قبيحة.
ربما، عندما نكف عن تلميع صورتنا أمام العالم، وعندما نبدأ بتنظيف شوارعنا الداخلية من الأنانية والطائفية والتطرف، يمكننا أن نرى انعكاسًا أفضل. إلى ذلك الحين، ستظل سوريا مجرد شبح في المرايا المكسورة.
أخيرًا… سوريا تحررت: بداية الصورة الجديدة؟
بعد كل هذا الدمار والانكسار، تحررت سوريا من الطاغية، من الدكتاتورية التي قيدت أصواتنا وطمست هويتنا لعقود. التحرير كان لحظة فاصلة، أشبه بكسر القيود عن جسد أثقلته السلاسل لسنوات طويلة. ومع سقوط الظلم، بدأت الصورة في المرآة بالتغير. لأول مرة منذ عقود، بدأت تظهر ملامح لوطن جديد، وطن ينبض بأمل مختلف، يحمل شعلة الحرية والكرامة التي طالما حلمنا بها.
لكن التحرير كان مجرد بداية. التحدي الحقيقي بدأ عندما وجدنا أنفسنا أمام مرآة تعكس حقيقتنا بكل ندوبها وجروحها. هل سنتعلم من الماضي؟ هل ستكون هذه الحرية بداية لتحسين الصورة، أم أننا سنسمح للانقسامات والصراعات الداخلية بأن تفسد ما حققناه؟
اليوم، ونحن نرى انعكاسنا في هذه المرآة الجديدة، ندرك أن المستقبل بأيدينا. الحرية من الطغيان لا تعني فقط سقوط حاكم ظالم، بل تعني بناء وطن يستحق تضحياتنا. لكن السؤال يظل: هل سنتمكن من الحفاظ على هذه الصورة الجديدة؟ أم ستتلاشى مع الزمن لتصبح مجرد ذكرى نرويها للأجيال القادمة؟
الطريق صعب، لكن الأمل موجود. سوريا التي تحررت تستحق أن تكون سوريا التي نحلم بها، سوريا التي نعيد فيها صياغة أنفسنا كأمة حرة، قوية، ومتحدة.
