لا أريد أن أتحدث عن نساء سوريا في التاريخ. الحديث عن زنوبيا ملكة تدمر أو حفصة القرطبية قد يبدو آسرًا، لكن هذه الشخصيات أصبحت قصصًا تُسرد للتفاخر بالماضي أكثر مما تُلهم الحاضر. أريد أن أستحضر أسماء نساء ملأ صوتهن فضاء الحرية والمقاومة في السنوات الثلاث عشرة الأخيرة. نساء لم يقدن جيوشًا، بل قادهن الإيمان بالحق وبالشعب السوري الذي أراد الحياة.
مي سكاف، أيقونة الحرية والكرامة، جسدت في حياتها وبعد رحيلها رمزية المرأة السورية التي لا تنحني. عبارتها الخالدة: “إنها سوريا العظيمة، وليست سوريا الأسد” لم تكن مجرد كلمات، بل كانت مانفيستو للثورة وروحها. دفعت مي ثمنًا باهظًا من روحها وراحتها الشخصية، لكنها بقيت مخلصة لصوت الشعب. وفدوى سليمان، الفنانة العلوية الشجاعة، كسرت جدران الطائفية بجرأة، وصاحت بصوتها الحر أن الظلم لا دين له ولا طائفة، متحديةً خطر النظام وقيود المجتمع.
سوسن أرشيد، نجمةٌ رفضت أن تكون أسيرة الأضواء السطحية، واختارت أن تقف في صف الحقيقة مهما كلفها ذلك من خسائر مهنية وشخصية. كانت في ميدانٍ غالبًا ما يساوم الموقف على النجومية، لكنها وقفت بإصرار ووضوح ضد الظلم.
ولا يمكن أن نغفل عن إيناس حقي وريم علي ولبانة قنطار وواحة الراهب ومها حسن، اللواتي أضأن بشجاعتهن زوايا مظلمة في المشهد السوري، وتحدين السرديات القمعية بنضالهن. صوت رشا رزق ظل نشيدًا للأمل والحب، لكنه في الوقت نفسه كان مرثاة للأطفال الذين سقطوا في سوريا، ورسالة رفضٍ مدوية ضد السكوت على الظلم. يارا صبري، في مواقفها النبيلة، لم تتوقف يومًا عن المطالبة بالمعتقلين، تضيء بصوتها مساحات العتمة وتعيد الأمل لعائلات أُطفئ نورها.
ولا يمكن الحديث عن نساء سوريا العظيمات دون ذكر رزان زيتونة، أيقونة الحقوق الإنسانية، وسميرة خليل، المقاتلة بصمت ضد القمع، وسمر يزبك، التي استخدمت قلمها كسيف يواجه الطغاة. سهير الأتاسي، التي لم تتردد يومًا في الوقوف في الصفوف الأمامية، وبسمة القضماني، التي لعبت دورًا بارزًا في المنصات الدبلوماسية رغم التعقيدات. ربى حبوش، التي استمرت في النضال من أجل الحرية والكرامة في الداخل والخارج.
وراء هذه الأسماء اللامعة، هناك آلاف النساء السوريات المجهولات اللواتي ضحين بكل شيء، من أمهات الشهداء إلى الناجيات من المعتقلات، من اللاجئات اللواتي بنين حياة من الصفر إلى الناشطات في المنافي. كل واحدة منهن تحمل حكاية بطولة لا تمحى، حكاية تشكل خيوط النسيج العظيم لسوريا التي تستحق الحرية.
النساء لا يُمحَين
قد تحاول الديكتاتوريات محو النساء من السردية الوطنية، وقد تحاول الأنظمة الرجعية تقزيم دورهن وحصرهن في زوايا “الستر والحياء”. لكن سوريا كانت وستبقى معقلًا لنساء لا يُمحَين. حتى وسط الحرب والدمار، كان للنساء السوريّات صوت لا يمكن خنقه. في الزنازين، في المنافي، على جبهات النضال المدني والإنساني، نساء سوريا حاضرات.
كم من امرأةٍ وقفت بين الموت والحياة لتقول: “لن أبيع حقي ولن أساوم على كرامتي”؟ كم منهنّ جعلن أطفالهن يبتسمون في المخيمات رغم الجوع والبرد؟ من يستطيع أن يمحو “أم الشهيد” أو “أم الناشط” أو “الناجية من المعتقل” من ذاكرة سوريا؟ إنهن تاريخ مكتوب بالدموع، بالحبر، بالدماء، وكل من يحاول تغييبهن كمن يحاول طمس ضوء الشمس.
لا صوت يتحدث بالنيابة
لسنوات، حاول البعض أن يتحدث باسم النساء السوريات، محاولًا تقديمهن كضحايا فقط، أو كرموز ناعمة للنضال من خلف الستار. لكن الحقيقة أن النساء السوريات لا يحتجن واسطة لرفع صوتهن. مي سكاف لم تنتظر من يروي قصتها، وفدوى سليمان لم تطلب إذنًا لتخرج في شوارع حمص وتكسر الحصار بصوتها.
اليوم، وبعد أكثر من عقد على الثورة، ما زالت المرأة السورية تواجه تحديات لا يمكن إنكارها. التهجير، اللجوء، الانتهاكات… كلها أعباء ثقيلة، لكنها لم تُنهِ شجاعتها أو صمودها. على العكس، أثبتت أن صوتها الحرّ أقوى من أي قيد.
ختامًا… سوريا لنساء الحرية
سوريا العظيمة ليست سوريا الأسد. هي سوريا النساء اللواتي صرخن في وجه الطغيان، رفضن السكوت، وأصررن على الحياة الكريمة. هي سوريا التي لا تُختزل بصراعات الرجال على السلطة، ولا تُمحى منها بصمات النساء. صوت النساء السوريات هو ما يصنع الفرق، وهو ما سيبقى بعد أن يسقط الطغاة وتُدفن أوهامهم.
هذه ليست كلمات مجاملة؛ بل حقيقة يعرفها كل من رأى أمًا تمسك بيد طفلها في المخيم، أو ناشطة تواجه سجّانها بابتسامة، أو مغنية تعيد إحياء الأمل بأغنية. النساء السوريات لسن رواية من الماضي؛ إنهن الحاضر والمستقبل.
