في لحظة تحمل عبق التحرر والانتصار، وقف الأخوان ملص على خشبة المسرح، ليقدما أول عرض مسرحي في دمشق بعد سقوط نظام الطاغية. كان العرض أكثر من مجرد فن، كان إعلانًا عن ميلاد جديد لسوريا الحرة، حيث تقف الثقافة والفنون في مقدمة المشهد، تعبر عن ألم الماضي وأمل المستقبل.
وأنا أكتب عن هذا الحدث، لم أكن في دمشق. حال المنفى واللجوء دون أن أكون شاهدًا على هذه اللحظة التاريخية، التي انتظرناها جميعًا. لكن من مكاني البعيد، شعرت بفرحة عارمة وأنا أتابع الأصداء تصلني من قلب العاصمة. بدا وكأن العرض تجاوز حدود الزمان والمكان، ليصل لكل من عانى الغربة القسرية. كأن المسرح نفسه يخبرنا أننا، حتى في المنافي، جزء لا يتجزأ من هذا الانتصار الثقافي، وأن الحرية ليست مجرد حلم، بل حقيقة بدأت تتجسد من جديد على خشبة وطننا.
وسيسجل التاريخ بأن عرض الأخوين ملص كان أول عرض مسرحي تشهده سوريا بعد التحرير من نظام الطاغية.
شجاعة الأخوين ملص لا تكمن فقط في تقديم عرض مسرحي بعد عقود من القمع الثقافي، بل في إصرارهما على أن يكون المسرح منبرًا للحرية. ورغم العراقيل المعتادة، حيث لم تحضر مديرية المسارح لتفتح أبواب مسرح القباني الذي كان مقرراً للعرض، أظهر السوريون روحهم الحقيقية. صاحب مسرح قريب، لم ينتظر إذنًا، وقرر فتح أبوابه الخاصة لاستضافة العرض، في خطوة تعكس فرحة الشعب بتحررهم وإيمانهم بقوة الثقافة في بناء المجتمعات.
مشهد الصالة التي امتلأت بالحضور كان رسالة واضحة: الناس هنا للاحتفال بالحرية، وللتأكيد أن المسرح، أبو الفنون، لا يمكن أن يموت. هو النافذة التي تنقل الحكايات، والأداة التي تعيد تشكيل الوعي، والساحة التي تلامس فيها الكلمات الأرواح. هذا الحضور الكثيف لم يكن مجرد دعم لفناني العرض، بل كان تصويتًا شعبيًا على أهمية الفن في زمن الحرية.
وعلى الجانب الآخر، غاب عن المشهد أولئك “الممثلون المكوعون” الذين قضوا سنوات طويلة في التطبيل للنظام تحت ستار الفن. أولئك الذين ادعوا أنهم مع الثورة بعد سقوط النظام، لم يحضر معهم أحد. الشعب الذي عانى من التشبيح يعرف جيدًا من وقف مع قضيته ومن كان أداة للقمع.
عرض الأخوين ملص لم يكن مجرد مسرحية، بل كان بيانًا ثقافيًا وشعبيًا بأن سوريا الجديدة تنبض بالحياة، وأن الحرية التي طال انتظارها وجدت صوتها الحقيقي في المسرح والفن. ومن على خشبة بسيطة، خطّ الأخوان ملص بداية فصل جديد في تاريخ البلاد، فصل يكتب فيه الشعب قصته بأصواتهم وإبداعهم.
