في زاويةٍ من زوايا الأرض، كانت هناك مدينة صغيرة، بالكاد تظهر على الخرائط، لكنها كانت تملأ نشرات الأخبار يوميًا. “المدينة الصامدة”، كما أطلق عليها إعلام السلطة، قيل إنها نموذج للثبات والشجاعة، حتى أن المذيعين كانوا يرددون بفخر: “هنا تُصنع الأساطير”.
من خلف شاشات التلفاز، كانت المدينة تبدو كما وصفوها: أضواء لا تنطفئ، شوارع مليئة بالحياة، ومواطنون يهتفون للقيادة الحكيمة. لكن الواقع كان مختلفًا. فالمدينة لم تكن سوى أنقاضٍ، حيث تحولت الأبنية إلى أكوام من الحجارة، والشوارع إلى مستنقعات من الوحل والركام. أما السكان، فكانوا يعيشون على بقايا الطعام والماء الذي يجلبه المهربون ليلاً، بعيدًا عن أعين “الحراس الأبطال”.
في أحد الأحياء المهجورة، جلس رجل خمسيني، على رصيف منزله المتهدم. كان يحمل مذياعًا قديمًا بلا بطاريات، يستمع بصمت إلى اللاشيء. “الإعلام يقول إننا انتصرنا اليوم”، قال لجاره، الذي كان يحاول إشعال نار صغيرة لطهي بعض العدس. ضحك الجار: “نعم، انتصرنا على الجوع بتناول التراب”.
الجميع في المدينة يعلم أن الانتصارات التي يتحدثون عنها مجرد أكاذيب، لكنهم اعتادوا أن يسمعوها دون أن يعترضوا. فهم يعلمون أن الاعتراض يعني زيارة سريعة إلى “الغرف المظلمة”، حيث لا أحد يعود أحد.
في المساء، بث التلفزيون الرسمي مشاهد من احتفالات كبيرة في “المدينة الصامدة”. رقصات شعبية، أغانٍ وطنية، وجموعٌ تهتف بحماس: “الصمود حياة”. وبينما كان المذيع يعلن بفخر أن المدينة أصبحت “جنة محصنة”، كان سكانها الحقيقيون يتحركون كالأشباح في ظلام دامس، يبحثون عن القليل من الماء أو الطعام.
“هل سمعت؟” قال شابٌ لصديقه. “اليوم قالوا إننا أقوى مدينة في العالم!” فرد عليه الآخر بسخرية: “بالطبع! فنحن نعيش بلا كهرباء، بلا ماء، وبلا أمل… من يستطيع فعل ذلك غيرنا؟”
مرت الأيام، وازدادت أوضاع المدينة سوءًا. الجوع أكل الأجساد، والخوف قضى على الأرواح. في النهاية، لم يبقَ في المدينة أحد. إما ماتوا، أو فروا، أو تم تهجيرهم بالقوة. أصبحت المدينة فارغة تمامًا، إلا من الأطلال والصمت.
لكن، في الليلة التي ماتت فيها المدينة، خرجت نشرة الأخبار كما هو معتاد. ظهر المذيع بوجهٍ متحمس، وبدأ يعلن بكل فخر: “أقيمت اليوم حفلة كبرى في المدينة الصامدة بمناسبة انتصارها الأخير. شكرًا لقيادتنا الحكيمة التي جعلت من المدينة رمزًا للعزة والكرامة. يعيش الوطن، وتعيش المدينة الصامدة!”
وفي الخلفية، ظهرت مشاهد لاحتفالات قديمة، عُرضت مرارًا وتكرارًا، دون أن يعلم أحد أن المدينة قد ماتت بالفعل.
