في يومنا هذا، يبدو أن الهواتف الذكية أصبحت أكثر ذكاءً من مستخدميها، والتكنولوجيا باتت تتحدث نيابة عنا بينما نحن مشغولون بالتقاط الصور لشطائرنا. المشكلة ليست في التقنية نفسها، بل في طريقة استخدامها؛ لقد تحولنا من مبدعين ومفكرين إلى “ضغط زر” و”تمرير شاشة”. والأسوأ، أن هناك من يجني ثروات طائلة من هذا الانحدار الجماعي… مرحباً بكم في عالم المؤثرين.
“مرحباً يا أصدقاء! أحبكم… فقط لأنكم تزيدون عدّاد المشاهدات”
المؤثرون اليوم هم عنوان الثرثرة التكنولوجية بامتياز. قد يستيقظ أحدهم صباحاً ليخبرنا، في فيديو مدته 15 دقيقة، عن نوع القهوة التي يفضلها وسبب اختياره لهذه الماركة بالتحديد، بينما يتخلل الفيديو إعلانات غير مباشرة عن قهوة “السوبر ماركت”. ثم يصرخ بكل فخر: “هذا رأيي الصادق!”
ليس ذلك فحسب، بل أصبح هؤلاء المؤثرون علماء نفس، وخبراء اقتصاد، وفلاسفة وجوديين، دون أي خلفية تعليمية. يكفي أن تتحدث بعبارات مثل “خليك إيجابي” و”الكون بيشتغل لصالحك”، وستجذب ملايين المعجبين الذين يشعرون أن مقطع الفيديو قد غير حياتهم… أو على الأقل غير طريقتهم في شرب القهوة.
المأساة التكنولوجية: “فلسفة الـ 15 ثانية”
لماذا نفكر ونبدع بينما يمكننا أن نرقص أمام الكاميرا لمدة 15 ثانية؟ هذه الفلسفة الجديدة تستند إلى قاعدة أساسية: “إذا كنت لا تستطيع إبهار الناس بذكائك، أبهِرهم بتفاهتك”. ومن هذا المنطلق، أصبحت التحديات مثل أكل 50 بيضة في دقيقة، أو صب دلو ماء مثلج فوق الرأس، أموراً يُشاد بها كأعمال بطولية.
الغريب في الأمر أن هذه الفيديوهات لا تقتصر على المراهقين فقط. حتى الشخصيات العامة، التي كان من المفترض أن تكون نموذجاً للوعي، أصبحت ترقص وتغني، وربما تروج لمنتجات تنظيف الأسنان، تحت شعار: “الناس عايزة ترفيه!”
متى أصبح الضجيج معياراً للنجاح؟
في زمن المؤثرين، أصبح مقياس النجاح ليس قيمة المحتوى، بل عدد المشاهدات والتفاعلات. يمكنك أن تقدم محتوى تعليمياً رائعاً عن الفيزياء أو الأدب، لكن لا تتوقع أكثر من 100 مشاهدة. أما إذا صورت نفسك وأنت تتظاهر بالسقوط من سلم أو تجرب “فلتر” غريب، فتهانينا! لقد وصلت إلى النجومية.
عقولنا في وضع الطيران
بينما نحن مشغولون بملاحقة أحدث التريندات، يبدو أن عقولنا قررت الدخول في وضع الطيران. لماذا نحل المشاكل بأنفسنا بينما يمكننا أن نسأل “غوغل”؟ لماذا نفكر بينما يمكن لتطبيق الذكاء الاصطناعي أن يكتب لنا مقالاً أو رسالة؟ ولماذا نقرأ بينما يمكننا مشاهدة فيديو ملخص؟
لكن، لنكن واقعيين، المؤثرون ليسوا المشكلة الحقيقية. هم مجرد انعكاس لعصرنا. نحن الذين اخترنا أن نتابع كل ما هو سخيف، ونشجع الهراء بدلاً من البحث عن شيء ذي قيمة.
الخاتمة: هل نحتاج إلى “فيلتر” للوعي؟
في نهاية المطاف، التكنولوجيا ليست عدوة لنا. العدو الحقيقي هو استسلامنا لسهولة الأمور وتجاهلنا للقيمة الحقيقية. ربما حان الوقت لنُعيد تشغيل عقولنا ونُحدد من نتابع ولماذا. حتى ذلك الحين، دعونا نستعد لمشاهدة تحدي “أكل البطاطا بـ 10 طرق مختلفة”، لأن هذا على ما يبدو هو الحدث الثقافي القادم!
نشرت في موقع الجزيرة بتاريخ ٢٣-١١-٢٠٢٤


رأيان حول “عندما ننسى استخدام عقولنا”