كان يا مكان في قديم الزمان، مدير دائرة حكومية يُدعى “منصور المنظور”، رجل كان يرى نفسه عبقريًا في تنفيذ الأوامر، حتى لو لم يفهم الغاية منها. تنفيذاً لتوجيهات القيادة الحكيمة، أمر بوضع صندوق شكاوى عند مدخل الدائرة، مصقولًا كأنه تحفة فنية، تحيطه لافتة تقول: “لا تخف، قل ما تريد!”
في الاجتماع الأول، وقف “منصور” أمام الموظفين وألقى خطابًا مليئًا بالمصطلحات الرنانة: “الصندوق دليل على أننا مع حرية التعبير. كل كلمة تُكتب هنا ستصل إلى مسامعنا. نحن نسمعكم!” صفّق الموظفون بحماسة مدروسة، فيما تبادل بعضهم النظرات الساخرة.
بدأ الصندوق يكتظ بالرسائل بسرعة غريبة. وعندما جاء اليوم الموعود لفتح الصندوق، دعا المدير الجميع لحضور ما أسماه “اللحظة التاريخية”.
“فلنبدأ!” أعلن بفخر وهو يفتح الصندوق أمام الحضور. مد يده وأخرج الرسالة الأولى:
“شكوى رقم 1: نرجو توفير خرائط للمبنى، فقد ضللتُ طريقي إلى مكتبي ثلاث مرات هذا الأسبوع.”
ضحك الجميع بتوتر، لكن المدير أبقى على ابتسامته القسرية. “اقتراح مثير للاهتمام!” قال.
أخرج الرسالة الثانية:
“شكوى رقم 2: نقترح منح علاوات على عدد الابتسامات اليومية، لأن معظمنا نسي شكل فمه وهو مبتسم.”
بدأت ملامح وجهه تتغير. سحب رسالة أخرى:
“شكوى رقم 3: نطالب بتخصيص وقت يومي لمشاهدة أفلام كوميدية، لأننا بحاجة إلى تدريب مستمر لتحمل اجتماعات المدير.”
اختنق صبره. ومع الرسالة الرابعة، انفجر تقريبًا:
“شكوى رقم 4: لماذا لا نضع لائحة للإجازات المرضية تشمل الأمراض النفسية التي تسببها الاجتماعات الصباحية؟”
في تلك اللحظة، تقدم مساعده الأمين، “مفتاح”، وهمس في أذنه: “سيدي، ربما يشعر الموظفون أن الشكاوى الحقيقية ستوقعهم في المشاكل… لذا لجأوا للسخرية. في النهاية، هم يعتقدون أن لا شيء سيتغير.”
رفع المدير حاجبيه بدهاء، وكأنه تذكر فكرة قديمة نسيها. استدار نحو مساعده وهمس: “هذا بالضبط ما أحتاجه. الصندوق أصبح أداة مثالية للجميع للتعبير عن رأيهم”
في الشهر التالي، اجتمع الموظفون في قاعة الاجتماعات لقراءة الرسائل الجديدة. كان المدير قد وضع خطته بعناية: يختار فقط الرسائل الساخرة، متجاهلًا أي رسالة جادة.
أمسك بورقة وقرأ:
“شكوى رقم 5: نقترح وضع آلة بيع مشروبات تحتوي على شاي ‘للاسترخاء’ بعد كل اجتماع صباحي.”
ضحك الجميع، والضحك كان مزيجًا من التوتر والإجبار.
ثم قرأ أخرى:
“شكوى رقم 6: نرجو توفير دروس في اليوغا للتعامل مع الروتين القاتل.”
ضحك المدير عاليًا، كما لو أنه وجد كنزًا.
أما الرسائل التي حملت تلميحات جادة، مثل:
- “لماذا لا يتم البت في ترقياتنا؟”
- “إلى متى سنبقى نتظاهر بالسعادة؟”
كانت تُرمى في سلة المهملات. بالنسبة للمدير، تلك ليست سوى “تشويش على أجواء المرح”.
أصبح الصندوق يُفتح شهريًا في احتفال مصغر. يتجمع الموظفون في قاعة الاجتماعات، يقرأ المدير النكات والاقتراحات الساخرة، فيما يتظاهر الجميع بالاستمتاع.
أحد الموظفين علق بين زملائه: “إذا أردت الترقية، اكتب نكتة عن المدير.”
آخر أضاف: “ربما يجمعون النكات يومًا ما ويطبعونها في كتاب!”
لكن الرسائل الحقيقية اختفت تمامًا. الجميع أدرك أن الشكاوى الجادة ستنتهي في درج مظلم، أو ربما تُستخدم ضد صاحبها.
بالنسبة للمدير، الصندوق كان “نجاحًا باهرًا”.
“انظروا كيف نتفاعل مع موظفينا! نحن نضحك ونستمع!” كان يكرر ذلك في الاجتماعات الإعلامية.
أما الموظفون، فقد تحول الصندوق في نظرهم إلى “صندوق العجائب”: مكان ترمي فيه نكاتك، لا صوتك. وهكذا، عاش الصندوق طويلًا، رمزًا لحرية التعبير المعلّبة، بينما الحقيقة تُركت خارج الغرفة، حيث لا يجرؤ أحد على كتابتها.

هذه الموضوعات المميزة التي ابحث عنها افضل موضوع مر بي انت افضل كاتب ومفكر ارجو كتابه المزيد