كان عيواظ، بطل مسرح خيال الظل، يشعر بالملل من حياته اليومية. كل ليلة، يؤدي نفس الحركات ويعيد نفس الحوارات، يروي للناس قصصًا لا يتغير فيها شيء. وفي إحدى الليالي، وبينما كان الجمهور مشغولًا بأحاديثهم أكثر من مشاهدته، قرر فجأة أن يفعل شيئًا مختلفًا.

“كفاية! سأخرج من هنا وأرى ما يوجد خلف هذا الستار.”
هكذا بدأ عيواظ مغامرته، تاركًا خلفه “كركوز”، و”المخيّل”، متخلياً عن الأضواء والمسرح، ليواجه عالمًا جديدًا.



لم يمضِ وقت طويل حتى رأى أرنبًا أسود يمر أمامه بسرعة غريبة. كان الأرنب يرتدي بدلة مبرقعة، يحمل ساعة جيب، ويتمتم بكلمات غير مفهومة.

تساءل عيواظ: “أرنب يتحدث؟ لا أرى ذلك حتى في القصص التي أرويها!”
بدأ يركض خلف الأرنب، تعثر في حفرة من حفر الطرقات المنتشرة وسقط. لكنه لم يجد نفسه في قاع الحفرة، بل في عالم مختلف تمامًا.



استيقظ عيواظ من صدمته، ليجد نفسه في مكان يعج بالمخلوقات العجيبة. السماء كانت بلون أخضر، والأشجار تنبت أكوابًا مليئة بالشاي الساخن. كانت الطرق تلتوي وتتحرك وكأنها تتلاعب بمن يمشي عليها.

“ما هذا المكان؟ هل هو حلم؟” تساءل عيواظ.
ظهر الأرنب الأسود مجددًا وقال: “مرحبًا بك في بلاد الغرائب! لكن انتبه، هنا لا شيء كما يبدو.”
قبل أن يرد عيواظ، اختفى الأرنب كعادته.



بدأ عيواظ رحلته في هذا العالم الغريب، والتقى بشخصيات عجيبة:

القط الباسم الحزين:
بينما كان عيواظ يتجول في بلاد الغرائب، لاحظ شجرة كبيرة بأغصان ملتوية تحمل على إحداها قطًا مبتسمًا ابتسامة عريضة حزينة.

اقترب عيواظ وسأل:

“مرحبًا، من أنت؟”

رد القط بصوت هادئ مليء بالسخرية:

“أنا القط الباسم الحزين. نبتسم دائمًا هنا، لكن لا أحد سعيد.”

تفاجأ عيواظ وسأله:

“كيف يمكن أن تبتسم وأنت تقول إنك حزين؟”

ضحك القط ضحكة طويلة، لكنها كانت تخفي شيئًا عميقًا، وقال:

“وهل هذا مختلف عما تراه في عالمك؟ أليس الجميع يرتدي أقنعة الابتسامة، بينما تخفي قلوبهم أحزانًا لا نهاية لها؟”

حاول عيواظ أن يجيب، لكن القط تابع قائلاً:

“الابتسامة هنا ليست علامة فرح، بل قانون. في بلاد الغرائب، يجب أن نبدو بخير طوال الوقت. السعادة ليست اختيارًا، بل واجب.”

نظر عيواظ إلى القط وسأله بحيرة:

“لكن ماذا لو أردت أن تُظهر حزنك؟”

هز القط ذيله قائلاً:

“من يفعل ذلك يُنفى من بلاد الغرائب. هنا، نزين الحزن بابتسامات واسعة حتى نبدو جميلين، ولو للحظة. لكن لا تقلق، أنت تفعل الشيء ذاته في عالمك، أليس كذلك؟”

صمت عيواظ للحظة، ثم قال:

“ربما نحن أيضًا نبتسم كثيرًا لنخفي ما لا نريد أن نواجهه.”

اختفى القط تدريجيًا، تاركًا وراءه ابتسامته فقط معلقة في الهواء، وقال بصوت خافت:

“ربما ستفهم يومًا أننا لا نختلف كثيرًا عنكم.”

ترك هذا اللقاء عيواظ يتأمل في عمق العبث الذي يعيشه، ليس فقط في بلاد الغرائب، ولكن أيضًا في عالمه الحقيقي.

مجلس الوزراء المجنون:
دخل عيواظ إلى غرفة كبيرة مليئة بالكراسي، وكل كرسي كان يتحدث في نفس الوقت. كانوا يناقشون خطة لتلوين البحر باللون الأصفر لجعله “أكثر إشراقًا”.

كرسي أحمر كبير صرخ:
“أقترح أن نلون البحر باللون الأصفر، ليصبح أكثر إشراقًا ويناسب الشمس!”

كرسي أخضر رد عليه بغضب:
“فكرة غير عملية! يجب أن نلون الغيوم بالوردي بدلاً من ذلك، فالناس ينظرون إلى السماء أكثر من البحر.”

كرسي أصفر، يبدو متعبًا، قال بنبرة ضجر:
“أنا أؤيد تغيير لون الشمس نفسها إلى الأزرق. هذا سيجعل كل شيء مختلفًا.”

حاول عيواظ التدخل:

“لكن هذه أفكار عبثية! لماذا تهدرون وقتكم في نقاشات لا طائل منها؟”

رد الكرسي الأحمر ساخراً:

“ومن قال إننا هنا لنتخذ قرارات منطقية؟ نحن هنا لنبدو مشغولين فقط.”

أحد الكراسي الصغيرة، التي كانت بالكاد مرئية بين الكراسي الكبيرة، تمتم قائلاً:

“أنا مجرد كرسي صغير. أوافق على كل ما يقولونه، حتى لو لم أفهمه.”

عندما حاول عيواظ أن يطرح سؤالاً عن الجدوى من كل هذه النقاشات، انفجر الجميع في الضحك وقال الكرسي الأزرق:

“الجدوى؟ هنا لا نحتاج إلى جدوى. المهم أن نتحدث كثيرًا ونبدو مهمين.”

قبل أن يغادر عيواظ، لاحظ أن القرارات التي اتفقوا عليها كانت تُكتب على لوح كبير، لكنه كان مصنوعًا من الرمال، وكلما كتبوا عليه شيئًا، محته الرياح.

خرج عيواظ من مجلس الوزراء وهو يضحك بسخرية:

“مجلس القرارات، أو مجلس الفوضى؟ أعتقد أنني لن أندهش إذا وجدت هذا المشهد في عالمي الحقيقي.”

مقهى الشكاوى:
وجد عيواظ مجموعة من الناس يجلسون على طاولات يشربون أكوابًا مليئة بالكلمات. عندما اقترب ليسمع، أدرك أن الجميع يشكو بلا توقف، لكن أحدًا لا يستمع.

جلس عيواظ على طاولة وحاول أن يبدأ حديثًا مع أحدهم، لكنه قاطعه قائلاً:

“أرجوك، لا تتحدث معي. لدي قائمة طويلة من الشكاوى يجب أن أنهيها قبل أن يبرد الكوب.”

عندما حاول لفت انتباه الجميع قائلاً:

“لكن لماذا لا تحاولون الاستماع لبعضكم؟ قد تجدون حلولًا لمشاكلكم!”

انفجر المقهى بالضحك، وردت إحدى السيدات:

“استماع؟ هل أنت جديد هنا؟ الاستماع ترف لا يمكننا تحمله. نحن فقط نشرب الكلمات ونواصل الشكوى!”

وفي زاوية المقهى، رأى آلة ضخمة كانت تطحن أوراقًا بيضاء وتحولها إلى أكواب ساخنة من الكلمات. اقترب وسأل النادل:

“ما هذه الآلة؟”
رد النادل:

“إنها آلة صنع الشكاوى. كل شخص يضع مشكلته هنا، وتحولها الآلة إلى كلمات متطايرة. لكن احذر! إذا وضعت شيئًا حقيقيًا، قد تختفي المشكلة للأبد.”

تراجع عيواظ وهو يبتسم بسخرية، ثم غادر المقهى وهو يقول لنفسه:

“الشكوى بلا هدف هنا أسلوب حياة، لكن الحلول ليست على القائمة.”

السوق المعكوس:

دخل عيواظ إلى سوق ضخم، لكن كل شيء كان فيه مقلوبًا. البائعون كانوا يشترون من الزبائن بدلًا من البيع. كل شيء كان يعرض بأسعار خيالية، لكن المشتري هو من يُطلب منه تحديد الثمن.

اقترب عيواظ من بائع يحمل ميزانًا معلقًا في الهواء وسأله:

“ما الذي يحدث هنا؟”
رد البائع بابتسامة ساخرة:

“هنا نبيع الأحلام ونشتري الوعود. من لديه وعد كبير يدفع الثمن!”

حاول عيواظ فهم الأمر، لكنه لاحظ أن الجميع يقدم وعودًا فارغة للحصول على أحلام غير حقيقية. أدرك أن السوق ليس سوى انعكاس لعالم من الكلمات بلا أفعال.

  • المكتبة الصامتة:

في طريقه، وجد مكتبة ضخمة مليئة بالكتب، لكن جميع الكتب كانت مغلقة بأقفال. كان هناك حارس عند المدخل، يحمل مفتاحًا كبيرًا لكنه لا يسمح لأي شخص بالدخول.

سأل عيواظ الحارس:

“لماذا لا يمكننا قراءة الكتب؟”
رد الحارس:

“المعرفة هنا محفوظة للأوقات المناسبة، لكنها ليست مناسبة الآن.”

عندما حاول عيواظ فتح أحد الكتب بالقوة، اكتشف أنه فارغ تمامًا من الداخل، باستثناء كلمات عشوائية متطايرة تقول: “ليس الآن. لاحقًا.”



وصل عيواظ إلى قصر ملكة النسيان، حيث يتم تنظيم لعبة النسيان الكبرى. القصر كان مليئًا بالساعات المكسورة والألواح الفارغة التي لا تحمل أي شيء مكتوب.

استُدعي للمشاركة في اللعبة، حيث طلب منه أن يكتب أهم ذكرى يريد أن يحتفظ بها. لكن بمجرد أن بدأ بالكتابة، اختفت الكلمات فورًا من الورق.

قالت رئيسة الخدم:

“هنا في بلاد الغرائب، ننسى كل شيء، لأن التذكر يجعلنا مسؤولين.”

حاول عيواظ أن يشرح لها أن التذكر مهم لإصلاح الأخطاء، لكنها ضحكت وقالت:

“إذا لم نتذكر، لن نشعر بالذنب. ألا ترى كم نحن مرتاحون؟”

التق عيواظ بالملكة التي كانت تجلس على عرشها المذهب، محاطة بساعة ضخمة متوقفة. قالت لعيواظ: “كل المشاكل هنا تُحل غدًا. لكن الغد لا يأتي أبدًا.”
رد عيواظ: “لكن إذا لم تُحل المشاكل، كيف يعيش الناس؟”
ضحكت الملكة وقالت: “يتأقلمون، مثلما تفعلون في عالمكم.”



بعد خروجه من القصر، وجد نفسه في متاهة غريبة، حيث الجدران مصنوعة من المرايا، وكل مرآة تعكس صورة مختلفة لعيواظ: واحد سعيد، وآخر غاضب، وثالث خائف. لكن أكثر ما أزعجه هو الأصوات.

كلما تحرك، سمع أصواتًا تصرخ بأوامر متناقضة:

  • “إلى اليمين!”
  • “لا، إلى اليسار!”
  • “قف مكانك!”

أدرك أن الأصوات لم تكن إلا أفكاره المتضاربة. كلما حاول تجاهلها والتركيز، أصبح طريقه أكثر وضوحًا. وعندما وصل إلى النهاية، وجد بابًا صغيرًا كتب عليه: “اتبع صوتك الحقيقي.”

تم القبض على عيواظ فجأة، واقتيد إلى محكمة التناقضات، القاضي كان يجلس على عرش يتأرجح بين “عادل” و”ظالم”. المحكمة كانت مليئة بالجماهير التي تشجع وتعارض في نفس الوقت. اتهمه القاضي بـ”إفساد النظام العبثي لبلاد الغرائب”.
دافع عيواظ عن نفسه: “أنا فقط أبحث عن المنطق والعدالة!”
رد القاضي: “المنطق والعدالة خطيران هنا. نحن نفضل الفوضى.”

التهمة؟ “محاولة تفسير المنطق في بلاد الغرائب.”

القاضي:

“كيف تجرؤ على السؤال عن النظام هنا؟ النظام هو ألا يكون هناك نظام!”

حاول عيواظ الدفاع عن نفسه:

“أنا فقط أبحث عن طريقي للخروج.”

الجماهير بدأت تهتف بشعارات مختلفة:

“دعوه يذهب!”

“لا، سجّلوه في دفتر التناقضات!”

في لحظة فوضى، وجد عيواظ فرصة للهروب، وركض نحو الباب المفتوح في نهاية المحكمة.


بينما كانت المحاكمة تتصاعد، بدأ كل شيء ينهار من حوله. الألوان تتلاشى، المخلوقات تختفي، والأرض تهتز.
استيقظ عيواظ فجأة ليجد نفسه خلف ستار خيال الظل. نظر حوله، كل شيء كان كما تركه، لكن في قلبه شيء تغيّر.

تساءل: “هل كان ذلك حلمًا؟ أم أنه انعكاس لما نعيشه كل يوم؟”
قرر أن يروي مغامرته للجمهور في قصته التالية، وبدأ الحكاية بقوله: “حتى في بلاد الغرائب، يمكن أن نجد حقيقة تشبه واقعنا.”

أضف تعليق