في زاوية المقهى الشعبي بالقرية الصغيرة، جلس عدد من الرجال يحتسون الشاي. الجو كان هادئًا، لكن الحديث عن غياب نزار أشعل الفضول بينهم.
أبو علي، الرجل العجوز الذي يعرف أخبار الجميع، قال بنبرة مرتابة:
“يا جماعة، سمعتم عن نزار؟ غاب من كم يوم، وما حدّ شافه. غريب جدًا، ما تعودنا منه هيك!”
أبو حسن، الذي كان دائمًا يشتكي من روتين حياة نزار، قال وهو يهز رأسه:
“يمكن راح بشي مهمة سرية؟ أنا ملاحظ عليه تغييرات من فترة. بطل يجي على الدكان زي زمان. فيه شيء مخبّأ ورا هذا الغياب.”
أبو خالد، الذي يحب نشر الإشاعات، ضحك بخبث:
“ما سمعتوا؟ فيه ناس بتقول إنه انضم لمجموعة مشبوهة. صار الإرهابي نزار! كان دائماً ساكت ومنعزل، هذا النوع بيخبّي أشياء كبيرة.”
أم أحمد التي كانت تمر بجانب المقهى التقطت طرف الحديث وقالت بحماس:
“أيوه، أنا سمعت من جارتنا إنه صار يجتمع مع ناس غريبة. الله يستر! الزمن ما عاد يبين البريء من المجرم.”
التعليقات انتشرت بسرعة بين أهالي القرية، كل واحد يضيف قصة جديدة، حتى أصبح غياب نزار لغزًا كبيرًا.
نزار، الموظف البسيط، لم يكن يومًا حديث الناس. طوال 30 عامًا كان يعمل بهدوء في إحدى الإدارات الحكومية، رجل بسيط، دائم الابتسامة، لا يتدخل في شؤون الآخرين. لم يعرف عنه أحد رأيًا في السياسة أو المجتمع، فقد كان يقضي أيامه بين العمل والمنزل، دون أن يشارك في نقاشات أو يدلي برأيه في أي شيء. يؤمن بالمثل “امشي الحيط الحيط، وقول يا ربي السترة”.. حتى ظله أصبح يتلاشى مع الأيام من كثرة مشيه بالقرب من الحيطان…
كان نزار معروفًا بالتزامه. لم يغب عن عمله يومًا، حتى في أشد حالات المرض. لكنه، قبل أيام، أُصيب بحمى شديدة أجبرته على البقاء في منزله لأول مرة منذ عقود. قرر أن يرتاح بضعة أيام، معتقدًا أن غيابه لن يثير أي اهتمام.
لم يكن نزار يدرك أن هذا الغياب البسيط سيشعل نار الإشاعات حوله.
عندما تحسنت صحة نزار قليلاً، خرج إلى الشارع متفائلًا بالعودة إلى حياته الطبيعية. لكنه تفاجأ بأن الجميع ينظرون إليه بنظرات غريبة. في المقهى، حاول أن ينضم إلى الجلسة كعادته، لكن الصمت خيم على المكان فور جلوسه.
أبو علي، الذي كان يُعرف بالثرثرة، اقترب منه وسأله بهمس: “نزار، شو صاير معك؟ الناس بتقول إنك تورطت بشيء كبير.”
نزار ضحك ضحكة خفيفة وقال: “تورطت؟ لا والله، كنت بس مريض.”
لكن أبو علي لم يبدُ مقتنعًا. “مريض؟! ما حدّ يصدق، الناس عم تحكي قصص تانية عنك.”
نزار حاول أن يُبرر، لكن أحدهم قاطعه: “يا نزار، ما في دخان من غير نار. كيف تغيبت فجأة بعد كل هالسنين؟!”.
بدأت الشكوك تتسلل إلى نزار نفسه. هل فعلًا غاب بسبب المرض فقط؟ لماذا لا يصدق أحد قصته؟ كلما حاول شرح ما حدث، زاد الناس في خلق رواياتهم الخاصة. حتى بات هو نفسه يتساءل إن كان قد أخطأ في شيء دون أن يدري.
في اليوم التالي، بدأت الأخبار تصل إلى السلطات. بعض التقارير تتحدث عن نشاطات مشبوهة حول غياب نزار، عن اجتماعات ليلية غريبة، وعن تغييرات طرأت على سلوكه مؤخرًا. تلك التقارير كافية لأن تثير اهتمام السلطات.
في الصباح الباكر، طرقت أبواب بيت نزار بعنف. فتح الباب ليفاجأ برجال الشرطة بانتظاره.
“نزار، أنت متهم بالتورط في نشاطات غير قانونية. تفضل معنا للتحقيق.”
حاول نزار التحدث والدفاع عن نفسه، لكنه وجد نفسه مكبل اليدين في سيارة الشرطة، في طريقه إلى المركز. في مخفر الشرطة، بدأ التحقيق معه، والاتهامات تتراكم. لم يكن يعرف ماذا يقول، فأي تفسير بسيط قدمه تم تفسيره على أنه جزء من “المؤامرة”.
بعد أيام تم الإفراج عن نزار، عاد إلى منزله محطمًا. لم يكن إطلاق سراحه سوى خطوة نحو الهاوية. الشائعات حوله لم تتوقف، بل ازدادت وتضخمت. السلطات التي كانت تراقب الأحداث من بعيد لم تكتفِ بالتحقيق معه. بدأوا في نشر رواياتهم الخاصة، يتحدثون عن “الشكوك” التي ما زالت قائمة حول نزار، وعن “الأسباب الغامضة” التي أدت إلى غيابه.
لم يعد نزار يعيش في القرية كالسابق. كلما خرج من بيته، شعر بعيون الناس تلاحقه وكأنها تقول له إنه مذنب، وإنه لم يعد واحدًا منهم. حتى في منزله، كان يسمع الهمسات تتسلل عبر الجدران، كأنها تطرق على عقله المحطم. حاول في البداية أن يتجاهل كل ذلك، لكنه كان عاجزًا عن إسكات الأصوات التي تتردد في رأسه.
في إحدى الليالي، بينما كان جالسًا في زاوية غرفته المظلمة، جاءته زيارة غير متوقعة. رجلان، وجوههم باردة كالصخر، طرقوا بابه بعنف ودخلوا دون أن ينتظروا إجابته.
قال أحدهم بصوت جاف:
“نزار، لم ننتهِ بعد من تحقيقنا. لدينا أسئلة أخرى. الأمور ليست بهذه البساطة كما كنت تظن.”
نزار وقف مذهولاً. لم يكن يتوقع هذه الزيارة. لم يفهم لماذا ما زالوا يلاحقونه. حاول التحدث، لكن الكلمات خنقته. قال أخيراً: “ماذا تريدون مني؟ لقد قلت كل شيء. كنت مريضًا فقط، هذا كل شيء!”
لكن الرجلين لم يكونا هناك لسماع تبريراته. قال الآخر بسخرية: “مريض؟ لا أحد يصدق تلك القصة. هناك خيوط كثيرة تشير إلى تورطك بشيء أكبر. دعنا نوفر عليك العناء… اكتب اعترافك وننهي كل شيء.”
حاول نزار الدفاع عن نفسه، لكن الضغط كان أكبر مما يمكنه تحمله. أحاطوه بأسئلتهم وتهديداتهم، وحاولوا إجباره على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها. في كل لحظة يزداد خوفه وارتباكه، وكأن شيئًا ما داخله ينكسر ببطء. كل محاولة للشرح كانت تزيد الطين بلة. كلماتهم تزرع في عقله بذور الشك في كل خطوة قام بها.
مع مرور الوقت، بدأت السلطة تتعامل معه كمذنب دون إثبات. القرية بأكملها صدقت القصة الجديدة، وبدأت تتعامل معه كخائن. حتى جيرانه وأقرب الناس إليه تخلوا عنه. السلطات لم تتوقف عند ذلك، بل بدأت في نشر تقارير كاذبة حوله، ليصبح اسمه مرتبطًا بالتآمر والخيانة.
نزار، الذي عاش حياته في ظل الهدوء والانضباط، وجد نفسه محاصرًا بين الشكوك والشائعات. بدأ يشعر بأن الجميع يطاردونه، وأنه أصبح هدفًا سهلاً للنظام والناس معًا. الأبواب التي كانت مفتوحة في وجهه أغلقت، والأصوات التي كانت صامتة بدأت تهمس بأن نزار قد “باع نفسه” أو تورط في أمر غامض.
في إحدى الليالي، جاء القرار الأخير. اقتحم رجال الأمن منزله مجددًا، لكن هذه المرة لم يكن الأمر استجوابًا بسيطًا. نزار وجد نفسه مقيدًا في غرفة صغيرة في مقر المخابرات، حيث تعرض للضرب والإهانة. في كل ضربة، كان يسمعهم يكررون:
“أنت تعرف لماذا نحن هنا. اعترف، وانتهِ من الأمر.”
لم يعد نزار يحتمل هذا التعذيب الجسدي والنفسي. في ذهنه، بدأت الأصوات تتصارع. كيف وصل إلى هذا الحال؟ كيف تحولت حياته من بساطة الموظف البريء إلى هذا الكابوس الذي لا نهاية له؟ كلمات الجلادين، ضرباتهم، والهمسات التي ملأت عقله، كلها كانت تهمس بشيء واحد: “اعترف، انتهِ من الأمر.”
وفي لحظة ضعف، وبينما كان جسده يتلوى من الألم، همس: “ربما كانوا على حق… ربما كنت مذنبًا دون أن أعلم.”
بعد ساعات من التحقيقات المستمرة، قرروا الإفراج عنه. لكن نزار لم يكن الرجل نفسه بعد الآن. خرج من المبنى ببطء، جسده منهك، وعقله محطم. عاد إلى قريته، لكنه لم يعد يشعر أنه ينتمي لهذا العالم.
في تلك الليلة، جلس نزار وحيدًا في شرفته، ينظر إلى السماء الداكنة. الأفكار في رأسه لم تهدأ، بل اشتدت. الأصوات لم تتوقف عن الصراخ داخله، “أنت مذنب… أنت مذنب.”
وفي لحظة يأس، قرر أن ينهي كل شيء. وقف على الجسر الذي يعبر النهر المظلم، نظراته فارغة، جسده متهالك. كانت كلمات الجلادين تتردد في رأسه:
“الحقيقة ما بتهمنا، المهم إن الناس تشوف إننا مسيطرين. بريء؟ مذنب؟ ما بيفرق، المهم إنك تتذكر: فيك رح نربي الكل، ونعلمهم إنو ما حدا بعد اليوم بيقدر يرفع راسو. نحنا اللي منقرر مين يعيش ومين يموت.”
في تلك اللحظة، قرر نزار أن يتخلص من العبء. ألقى بنفسه في النهر، لتبتلعه المياه الهادئة. لم يكن هناك أحد ليراه، ولم يكن هناك من يسأل عن غيابه مجددًا.
في صباح اليوم التالي، مر الناس بجانب النهر كأن شيئاً لم يكن، غير عابئين بما حدث. أما السلطات، فلم تكترث لموته، فقد حققت ما أرادته: زرعت الخوف في قلوب الجميع، ولقنتهم درساً بأن كل من يفكر برفع رأسه سيواجه المصير نفسه. انتهت قصة نزار كما بدأت: بلا معنى، وبلا أدنى اهتمام.
