تخيّل معنا عزيزي القارئ رحلة خيالية تعود فيها بآلة الزمن إلى الزمن الجميل، حيث جلس السمِّيعة بملامح راضية وأرواح مستبشرة، مستمتعين بسهرة مع صباح فخري، يرددون معه “قدّود حلبية” و”يا مال الشام”، ويمتلئون بالطرب من شدة تأملهم للموسيقى التي تنساب كالعسل. ثم بسرعة البرق، تقفز بنا آلة الزمن هذه إلى حاضرنا البائس، حيث يجتمع الشباب ليس على مواويل طربية بل على أغنية “البطة بطت بطتين”، والريمكس العجيب لأغنية “البيضة والكتكوت” على إيقاع الدبكة التكنولوجية.
أجل، هناك حيث أضحى الفن عجيبًا وغريبًا، والناس تصطف لتحية صناع فن “التريند السريع” الذي يسيطر على أذواق الجماهير. لم يعد هناك وقت للصبر، ولا مجال للتأمل، ولم يعد أحد يطلب من المغني أن يعيد مقطعاً طربياً عذباً.. فالأغاني الحديثة تأتي كأسرع طرد دليفري ممكن، تصل في دقائق، وتُستهلك في ثوان، وتختفي دون أثر كأنها لم تكن.
اليوم، أصبح الجيل الجديد متحمساً لجولة مع “النجوم اللامعين” من مغنيي “الحاصودي” و”بطة بطت بطتين” و”البقة”، وليس مع “نجوم الغناء” أصحاب الحناجر الذهبية. تُركت الأغنية الطربية مثل تحفة نادرة في المتحف، مع معجبيها القلائل من كبار السن وأصحاب الذوق الفني الذين ما زالوا يحلمون بلحظات الطرب الأصيل، ويتحسرون على الأيام التي كانت فيها الكلمات واللحن تجتمعان على وقع الإبداع والابتكار.
الآن، يتحدث المسؤولون، كعادتهم، عن “النهوض بالثقافة”، و”إعادة الألق للأغنية السورية”، وكأنهم يريدون إعادة إنتاج ذلك الأثر الفني عبر القرارات و”اللجان” و”المعاهد الموسيقية” الجديدة. لكن، لنسألهم بصدق: هل يمكنهم حقًا إنقاذ هذا الفن من القاع الذي بلغناه؟ فنحن أمام موجة شعبية يشتد عصفها كل يوم، تصدح بلا توقف: “خلّصني من الشيلات الحزينة، ودلني على الريمكسات العجيبة!”
ورغم الوعود البراقة، أصبح المواطن السوري لا يُكترث لأمر الفن، مثلما لا يُكترث لأمر الكهرباء أو ارتفاع الأسعار، فجميعها باتت من الكماليات، والرفاهيات، التي لا طاقة له بها، فكيف له أن يتابع مشواره الموسيقي؟
لكن، لا بأس، فالحياة اليوم ليست إلا عصفًا من نوع آخر. ولتسأل نفسك: هل أنت في صف “السمِّيعة” الذين يترقبون عودة الفن الأصيل، أم من أولئك المتحمسين للجيل الجديد من الأغاني “السريعة والخفيفة”؟
