في مقهى صغير على زاوية شارع ضيق في باب توما، جلست مريم وهي تحرك قهوتها ببطء، عينها تهرب إلى النوافذ المفتوحة التي تكشف عن سماء دمشق الملبدة بغيوم شتوية. أمامها جلس كريم، ملامحه متجهمة، يحاول اختراق صمتها بعبارات مترددة. كان المقهى مكتظًا بأصوات المارة وضجيج الحياة، لكن داخلهما كان يعج بصمت أثقل من الرصاص.
قال كريم، محاولًا كسر الحاجز: “أتعرفين، الأمر ليس معقدًا كما تتصورين. لقد سمعت عن أناس فعلوا ذلك، ولم يكن الوضع سيئًا.”
رفعت مريم نظرها ببطء، عيناها مليئتان بمزيج من التوتر والتحدي. “لا يبدو بسيطًا، كريم. ليس بالنسبة لي، وليس لما سيأتي بعد ذلك.”
ارتشف كريم قهوته بسرعة، كأنه يحاول أن يخفي ارتباكه. “أنا فقط أفكر في المستقبل، فينا… نحن الاثنين. إنها خطوة واحدة، وبعدها سنكون معًا، بعيدًا عن هذا العبء.”
ابتسمت مريم بمرارة، ورمقت طاولة خشبية قديمة بجانبها وكأنها تبحث عن إجابة بين شقوقها. “الخطوة التي تتحدث عنها ليست مجرد خطوة، كريم. إنها أكثر من ذلك بكثير.”
المقهى استمر في الحركة من حولهما، دون أن يشعر أحد بموجة الصمت الثقيل التي اجتاحت طاولتهما. استرق رجل في الزاوية نظرة إلى الزوجين، كأنه يشعر بشيء غير مرئي في الهواء.
كريم ترك كلماته تتسرب مثل همس متوتر: “نعلم أن هذا هو الحل الوحيد… أو على الأقل الحل الأسرع.”
لم ترد مريم، بل استنشقت بعمق وأغلقت عينيها للحظة. كانت تعيد شريط حياتها، صورًا لأهلها، وأحاديث سابقة مع والدها الذي طالما ذكرها بأن الانتماء ليس مجرد بطاقة أو كلمة، بل هو شيء ينبع من القلب.
كريم، الممثل المتقن لدوره المرهق، رمقها بنظرة مليئة بالإلحاح: “نعلم أن هذا هو الحل الوحيد. إنها ليست سوى ورقة، توقيع، وبعدها نستطيع أن نغلق هذا الملف الثقيل ونمضي.”
مريم ضحكت بمرارة، صوت ضحكتها كشرخ في جدار صمت المقهى، ارتدت كلماتها سخرية: “الورقة؟ الورقة هي كل شيء هنا. الورقة التي تُمرر تحت الطاولات، الورقة التي تفتح الأبواب وتغلق القلوب. أتريدني أن أكون مثل تلك الورقة، تُطوى وتُنسى في الأدراج؟”
فتح كريم فمه ليقول شيئًا آخر، لكنه أدرك أن الكلمات ستكون مجرد صدى لحديثهما المتكرر، فآثر الصمت. نظر إلى مريم مرة أخيرة، محاولًا قراءة وجهها. هل كان هناك إشارة؟ قرار غير منطوق؟ لكن وجهها ظل جامدًا، غارقًا في أفكاره الخاصة.
بينما كانا جالسين هناك، تمر الساعات وتتلاشى أصوات الزبائن، وتغلق الأنوار واحدة تلو الأخرى، بقى سؤاله معلقًا في الهواء، دون إجابة.
خارج المقهى، كانت مياه نافورة قديمة تتساقط بلا توقف، رمزًا لحياة تستهلكها الأيام دون أن تفكر. مرّ أحد المارة ونظر إلى النافورة نظرة عابرة، كما لو كانت أمرًا عاديًا وسط كل العبث المحيط.
وفي داخلهما، بقي السؤال معلقًا. لم يكن أي منهما يعرف الإجابة الحقيقية، أو ربما كان كلاهما يخاف أن يعترف بأنه لا يوجد قرار مثالي في مدينة ترقص على حبال متقطعة بين التقاليد والوعود الكاذبة، حيث تبقى الورقة التي لم تُكتب أثقل من كل الكلام الذي قيل.
