كان يعمل في دكان صغير في سوق الحميدية، يجمع فيه صدى الوعود الكبيرة التي يبيعها التجار والأثرياء بوجوه مليئة بالابتسامات الكاذبة. يتحدثون عن النجاح كمن يبيعك هواءً في علبة، يملأون المكان بكلمات ضخمة لا تسعها جدران السوق. ومع كل وعد يطلقونه، كان نادر يزداد عطشًا، يشرب من مرارة حلمه حتى الثمالة.

ذات مساء، جلس نادر في ساحة الأمويين، ينظر إلى السماء التي بدت له كمشهد مسرحي ساخر. النجوم تلمع بعيدًا، تضحك عليه، وكأنها تهمس له: “لا تنسَ يا نادر، هنا، العنب سراب والحصرم قدر”. وبينما كان يطيل النظر، مرّ شيخ عجوز بوجه منقوش عليه تاريخ من الهزائم، قال له بصوتٍ مشحون بالحنين والسخرية: “يا بني، لا تجري وراء عنقود في حقل لا يُنبت سوى الحصرم”. ضحك نادر بصوت مجروح وأجاب: “لكن ربما في المحاولة طعمٌ أفضل من الانتظار”.

ومع مرور الأيام، بدأت المدينة تتآكل، كأنها لوحة قديمة ينهشها الغبار. السوق أصبح صامتًا، يشبه حفلة تنكرية انتهى ضيوفها ولم يبقَ سوى صدى الأغاني المحطمة. نادر، الذي كان يحمل في قلبه جمر الطموح، وجد نفسه وحيدًا وسط أكوام الوعود المحترقة. حاول أن يمد يده إلى عنقود العنب المتخيل، لكن كلما اقترب، كانت حلاوة الحلم تتحول في فمه إلى حصرم حامض يعض لسانه بسخرية.

وفي إحدى الليالي القاتمة، دخل عليه رجل من رجال السلطة، بوجه بارد كصباح شتوي جاف، وقال له: “العنب للأقوياء، يا صبي. أما أنت، فتعود إلى حصتك: الحصرم”. وخرج، تاركًا نادر بين رفوف الدكان الخاوية، التي كانت تردد بمرارة: “هنا، الطموح لعبة خاسرة”.

الأيام تمرّ كضيف ثقيل، ونادر يسير في شوارع المدينة كمن يركض وراء ظله. المدينة مليئة بوجوه تئن من الجوع وتتحملها بوجوه شاحبة كالغيوم الممطرة بلا ماء. وفي صباح شاحب آخر، اكتشف أن متجره أغلق بأمر من “الضرورات الأمنية”. لم يبقَ شيء له في هذه المدينة، لا متجر ولا أمل ولا حتى عنقود عنب.

أضف تعليق