في زمن مضى، كان الذوق الفني العربي يُقاس بتلك اللحظات الساحرة التي تأخذنا فيها فيروز إلى جبال لبنان مع “كان عنا طاحونه”، أو حينما يغمرنا عبد الوهاب وأمك كلثوم بـ”أنت عمري”. كانت الموسيقى ملاذًا للأرواح، والكلمات زادًا للعقول. ولكن اليوم، نحن في عصر جديد، عصر “بقة” و”الحاصودي”، حيث الكلمات بلا معنى والألحان مجرد صدى لآلات الجرّار!
نعم، نحن الآن في زمن المغني الشامي، الذي لا يكاد يفتح فمه إلا ليُطلق أغنيته الخالدة “بقة”. وكأن العالم كله ينتظر هذه الكلمة العبقرية لتُحل جميع الأزمات. أما “الحاصودي” لعلي الديك؟ فهي التحفة الفنية التي أصبحت مرجعًا لكل من يريد أن “يهز وسطه” بدلًا من “هز مشاعره”! ويبدو أن السر في نجاح هذه الأغاني هو تكرار الكلمات الرنانة مثل “بقة” و”يا حاصودي” بما يكفي لجعلنا ننسى أن هناك شيئًا اسمه “كلمات ذات معنى”.
في الماضي، كان الفنان يغني للعشق، للحرية، للكرامة، أما اليوم، فالأمر مختلف تمامًا. علي الديك يتصدر الساحة بأغنياته التي لا تتحدث عن الحياة أو الحب، بل عن “الحصيدة” و”الفزعات”! وكأننا عدنا لعصر الزراعة، حيث يُستبدل الحب بحصاد الشعير!
والأغرب من ذلك، أن جمهور هذه الأغاني ليس فقط “منبهرًا”، بل يعتبر “الحاصودي” تحفة موسيقية توازي “الليل وسماه” لعبد الوهاب! كأننا أمام ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا بأن الذوق الفني قد تحول إلى مسابقة لمن يستطيع إزعاج الجيران أكثر.
والسخرية لا تقف هنا. فالفن لم يعد يُنتج ليُطرب أو يُلهب المشاعر. بل أصبحت الساحة الفنية ساحة سباق للسخرية من الآخرين، حيث يتم قياس النجاح بقدرة الفنان على “التنمر” الفني. وأصبح “التكرار” هو السر، سواء كان تكرار كلمة “بقة” أو “الحاصودي”، طالما أن الجمهور لا يزال يرقص على أنغامها، فإن الفنان قد وصل للقمة.
في النهاية، ربما نحن الآن في عصر جديد من الفن العربي، عصر يُقاس فيه الذوق الفني ليس بما تتركه الأغنية من أثر في النفس، بل بمدى قدرتها على إثارة الضحك والرقص الجماعي على كلمات بلا معنى. فنحن لسنا بحاجة إلى “أنت عمري” أو “كان عنا طاحونه” بعد الآن، ما دامت “الحاصودي” هي التي تقود الجيل!
