من كان يتوقع أن يأتي اليوم الذي يودع فيه السوريون السيارات ويستبدلونها بالأقدام؟ في زمن الأزمات، أصبح المشي وسيلة التنقل الرئيسية، لا بل الرياضة الوطنية التي فرضتها الظروف. انعدام المحروقات لم يعد أزمة مؤقتة، بل تحول إلى حالة دائمة تجبر السوريين على العودة إلى أصلهم البدائي: المشي، كما فعل الأجداد في العصور القديمة.

العيش دون سيارات أصبح حقيقة لا مفر منها. مع اختفاء الوقود، أصبح التنقل عبر السيارات ضربًا من المستحيل، وتحولت الأقدام إلى وسيلة التنقل الأولى. لم تعد هناك حاجة للوقوف في طوابير البنزين الطويلة، بل أصبح السوريون يستعيدون بساطة الحياة عبر السير لمسافات طويلة يوميًا. ربما كان البعض يشتكي من الزحمة المرورية سابقًا، أما الآن، فقد تحولت شوارع المدن إلى مساحات شاسعة للسير.

السير ليس مجرد وسيلة تنقل، بل تحول إلى أسلوب حياة. المحطات الفارغة والسيارات المتوقفة في الشوارع أصبحت مجرد مشاهد يومية مألوفة، بينما يسير الناس في كل مكان وكأنهم يخوضون سباق ماراثوني يومي دون خط نهاية. السيارات أصبحت ذكرى من الماضي، بينما الأقدام تحمل عبء الحياة اليومية.

في زمن انعدام المحروقات، لا حاجة لصرف الأموال على الوقود الذي لم يعد موجودًا. أصبح المشي هو الحل الأمثل للتنقل، وهو أيضًا وسيلة مثالية لتوفير الأموال. بدلاً من دفع مبالغ طائلة للحصول على الوقود في السوق السوداء، أصبح الاستثمار في زوج من الأحذية هو الحل الأكثر واقعية. الأحذية هي وسيلة التنقل الجديدة، والبديل الأفضل للسيارات.

لم يعد السوريون بحاجة إلى الوقود ليتمكنوا من التنقل. كل ما يتطلبه الأمر هو زوج من الأحذية القوية، وتصبح الحياة أكثر اقتصادية وأقل تعقيدًا. المشي مجاني، ولا يتطلب سوى قليل من الجهد وبعض الوقت للوصول إلى الوجهة، مهما كانت بعيدة.

المشي اليومي لم يعد مجرد تمرين بدني، بل أصبح فرصة لتعزيز العلاقات الاجتماعية. الشوارع باتت تعج بالسوريين الذين يسيرون جنبًا إلى جنب، يتبادلون الأحاديث ويتعرفون على جيرانهم الذين لم يروهم منذ زمن بعيد. لم تعد الحاجة للتواصل الاجتماعي مقتصرة على مواقع التواصل، بل أصبحت الشوارع هي الفضاء الاجتماعي الجديد.

أثناء السير، يمكن سماع قصص الطوابير الفارغة، ونقاشات حول آخر الأخبار، وحتى المزاح حول “المشي الإجباري” الذي أصبح جزءًا من الحياة اليومية. المشي قرب الآخرين هو الوسيلة الجديدة لبناء علاقات إنسانية، وجعل الشوارع أماكن للتفاعل الاجتماعي اليومي.

مع اختفاء السيارات والاعتماد المتزايد على الأقدام، أصبحت البيئة أكثر نقاءً. الهواء الذي كان ملوثًا بعوادم السيارات بدأ يستعيد عافيته، وأصبحت المدن السورية أقل تلوثًا. الأزمة الحالية ربما فرضت المشي، لكنها أيضًا ساهمت في تقليل الانبعاثات الكربونية وجعلت البيئة أكثر نظافة وصحة.

لا عوادم، ولا ضجيج سيارات، فقط أقدام تمشي في هدوء الشوارع. إنه انتعاش بيئي فرضته الظروف، وجعل المدن تبدو أكثر هدوءًا ونقاءً مما كانت عليه في السابق. الطبيعة تزدهر، بينما البشر يتعلمون التكيف مع واقع جديد.

المشي في ظل الأزمة ليس مجرد تمرين بدني، بل هو درس في الصبر والتحمل. السوريون الذين كانوا يعتمدون على وسائل النقل السريعة باتوا الآن يتعلمون فن الانتظار والتحمل. السير لمسافات طويلة أصبح تجربة يومية، تتطلب الصبر والاستعداد النفسي.

كل خطوة تُخطى هي تدريب على التكيف مع التحديات اليومية. مع كل يوم يمضي، يتعلم السوريون كيف يواجهون الحياة بإصرار أكبر، كيف يتأقلمون مع الظروف القاسية، وكيف يستمرون في العيش رغم كل الصعوبات.

في نهاية المطاف، لا يمكن تجاهل الحقيقة الواضحة: نظام الأسد هو من أوصل السوريين إلى هذه المرحلة. بفضل سياساته العظيمة، أصبحت الحياة في سوريا رحلة دائمة من المشي نحو المجهول. أزمة المحروقات ليست مجرد مشكلة عرضية، بل هي نتيجة حتمية لسياسات النظام الذي حوّل المواطنين إلى مشاة محترفين.

السوريون لم يختاروا هذا الوضع، لكنهم وجدوا أنفسهم مجبرين على السير في شوارع خالية من السيارات، بلا بنزين ولا حلول. إن كانت هناك جائزة للنظام الذي يجبر شعبه على ممارسة الرياضة الوطنية، فلا شك أن نظام الأسد سيحصل عليها بكل جدارة!

أضف تعليق