يبدو أن الدنمارك وهولندا قد اكتشفتا سرًا جديدًا لم يُدرَّس في أي من كتب الجغرافيا أو التاريخ: مناطق آمنة في سوريا! نعم، نفس سوريا التي تشهد على مدار الساعة اختطاف العراقيين والأردنيين، واعتقال السوريين العائدين طوعًا، وانقطاع الكهرباء، وغياب الوقود، والحياة التي تشبه فيلمًا سيئًا من أفلام الرعب. يبدو أن “الأمان” لدى هذه الدول يتم تعريفه وفق معايير غريبة للغاية، حيث لا ماء، لا طعام، لا وقود، لكن مرحبًا، على الأقل لا نسمع أصوات المدافع (اليوم).
في الدنمارك وهولندا، يبدو أن فكرة الأمان تتعلق بأشياء غير مرئية، مثل: ماذا عن العودة إلى العصور الوسطى؟ تخيلوا سوريا المظلمة، بلا كهرباء لأسابيع أو ربما شهور، حيث الظلام هو الرفيق الوحيد للسكان. هذا الظلام الذي قد يكون مصدر “الأمان” الوحيد: لن يتمكن الخاطفون من رؤية ضحاياهم بسهولة، لذا قد يصبح الوضع “آمنًا” بالفعل!
ربما يفكر المسؤولون في تلك الدول بأن الحياة البدائية أكثر راحة. بدون كهرباء، لا تكنولوجيا، بدون تكنولوجيا، لا قلق. وماذا عن الوقود؟ بالتأكيد، من يحتاجه؟ العودة إلى النار الحجرية ستكون الخيار الأمثل. نحن في الحقيقة لا نعرف كيف يمكنهم إعادة اللاجئين إلى بلد لا يمكن للسيارات حتى أن تجد وقودًا لتوصيلهم من المطار إلى “المنطقة الآمنة” التي رسموها على الخرائط بقلوبهم الطيبة.
أما إذا كنت تعتقد أن “الأمان” يقتصر فقط على الكهرباء والوقود، فأنت حقًا بحاجة إلى إعادة التفكير. في سوريا، هناك “تجربة الخطف والاعتقال” التي تقدم كجزء من الحزمة الشاملة للمناطق الآمنة. لا يهم من أنت، عراقي؟ أردني؟ أو حتى سوري عائد بعد رحلة طويلة من اللجوء، ربما تحتاج إلى تغيير المشهد قليلاً مع جولة قصيرة في زنزانة صغيرة تقدمها السلطات كنوع من الترحيب.
وعلى الرغم من أن الدول التي تفكر في إعادة اللاجئين قد تتغاضى عن هذه “التفاصيل”، إلا أن الواقع بسيط جدًا: العودة الطوعية تعني أن تعتقل طوعًا أيضًا. إذا كانت لديك فكرة رومانسية عن العودة إلى ديارك، فمن الأفضل أن تعد نفسك لجولة سياحية في أقبية النظام، حيث الضيافة على أصولها!
والآن لنطرح السؤال الأهم: من الذي سيضمن أمان هذه المناطق؟ بالطبع، النظام الحاكم، نفس النظام الذي برع في تحويل المدن إلى ساحات حرب، والسجون إلى وجهة سياحية لمن عادوا طوعًا. هل نتوقع من النظام أن يحول سوريا إلى واحة من السلام؟ بالتأكيد! فقط انظر إلى التاريخ. النظام لديه سجل حافل في… سحق كل شيء تحت قدميه!
إذا كانت هناك أي فكرة في ذهن المسؤولين في الدنمارك وهولندا حول قدرة النظام على حماية هذه المناطق، فإنهم ربما يتخيلون أن الأسد قد قرر فجأة أن يتحول إلى مرشد سياحي، يقوم بجولات في أنحاء سوريا ليقول: “وهنا كانت الحرب، والآن أصبحت جنة، على الأقل حتى إشعار آخر”.
فلنكن صريحين: الحياة في سوريا اليوم تشبه مباراة ملاكمة بدون قفازات، حيث كل لكمة يمكن أن تكون الأخيرة. الناس يقاتلون للحصول على الوقود كما لو كان الذهب، والطوابير على الخبز تُذكرنا بطوابير اللاجئين على الحدود. المياه؟ إن وجدت، فهي بالتأكيد ليست صالحة للشرب. الطعام؟ سلعة نادرة مثل أسنان الدجاج. ومع ذلك، يتحدثون عن “الأمان”، وكأن كل ما تحتاجه للبقاء هو الأكسجين.
عودة اللاجئين؟ إلى ماذا بالضبط؟ إلى انتظار الفرج في طوابير طويلة بلا نهاية؟ أم إلى خوض معركة يومية للبقاء على قيد الحياة؟ يبدو أن فكرة العودة تتجاهل تمامًا أن سوريا ليست سوى مدينة أشباح، بلا خدمات، بلا اقتصاد، بلا حياة كريمة.
في النهاية، يبدو أن “المناطق الآمنة” هي منتج أوروبي بامتياز، يمكن تسويقه فقط لمن لا يعرف حقيقة الوضع في سوريا. ربما في الدنمارك وهولندا، يتصورون أن المناطق الآمنة هي مثل حدائق الربيع المزهرة، حيث يمكن للاجئين العائدين الجلوس تحت الأشجار وشرب الشاي في سلام. لكن الواقع هو أن سوريا اليوم لا تملك سوى الرماد والدمار والظلام.
فلتأخذ الدنمارك وهولندا خرائطهما وتوقعاتهما الطيبة، ولكن حتى يعود النور إلى سوريا ويختفي النظام الذي أطلق العنان لكل هذه الفوضى، لن تكون هناك “مناطق آمنة”. فقط مناطق تنتظر المزيد من القصص المأساوية، والمزيد من اللاجئين الجدد الذين سيغادرون بحثًا عن حياة حقيقية… في مكان آخر.
نشرت في موقع الجزيرة نت بتاريخ 3-9-2024
