منذ طفولتنا المبكرة، كنا نسمع كلمة “عيب” تتردد في كل مكان، كصوت خفي يرافق كل تصرف نفعله أو نفكر فيه. كلمة بسيطة، لكنها تحمل في طياتها ثقل المجتمع وتوقعاته، وتعمل كسلاح يستخدمه الكبار لتوجيه الصغار نحو ما هو “مقبول” وما هو “مرفوض”. هذه الكلمة لا تمثل مجرد تصحيح سلوكي، بل هي أداة للتشكيل النفسي العميق، الذي يترك أثره في ذواتنا ويدفعنا إلى اتباع سلوكيات قد تكون بعيدة عن حقيقتنا.
منذ الصغر، تُزرع فينا “العيب” كوسيلة للتربية. تُستخدم لتحديد ما يجب أن نقوله، وكيف نتصرف، ومتى نكون مقبولين من المجتمع. إنها تلك العبارة التي تأتي قبل كل خطوة جريئة، كتحذير يوقف حركتنا نحو الجديد أو المختلف. حتى لو لم يكن هناك خطأ واضح في الفعل الذي نقوم به، تُستخدم كلمة “عيب” لتجعلنا نشعر بالذنب، فقط لأن تصرفاتنا لا تتماشى مع التوقعات.
لكن ما هو العيب؟ هل هو مجرد عرف اجتماعي يتغير من مكان لآخر، أم أنه شيء أكثر تعقيدًا؟ في الواقع، العيب غالبًا ما يكون نسخة من الأفكار السائدة في مجتمع ما، تلك التي تعتمد على تقاليد وقيم مرّت عبر الأجيال. المشكلة تكمن في أن هذه التقاليد قد لا تكون دائمًا عادلة أو منطقية. فبعض الأمور التي نعتبرها “عيبًا” قد تكون، في سياق آخر أو ثقافة أخرى، أمرًا طبيعيًا بل وحتى مرغوبًا.
مع مرور الوقت، تصبح كلمة “عيب” جزءًا من هويتنا النفسية. نتجنب أفعالًا معينة ليس لأنها خاطئة، بل لأنها “عيب”. وهكذا، نبدأ في تقييد أنفسنا بناءً على معايير خارجية، لا على قيمنا أو معتقداتنا الشخصية. نفقد شيئًا من الحرية الداخلية، ونتحول إلى أفراد يحرصون على أن يكونوا “مقبولين” قبل أن يكونوا صادقين مع أنفسهم.
من المؤسف أن “العيب” لا يقتصر على الأمور الأخلاقية الكبرى، بل يمتد ليشمل التفاصيل اليومية. نسمع “عيب” عندما نضحك بصوت عالٍ، أو نرتدي ملابس غير مألوفة، أو حتى عندما نبدي رأيًا مخالفًا. بهذا، تتحول الكلمة إلى قيدٍ يخنق الفردانية ويقلل من مساحة التعبير الشخصي.
لكن ماذا لو قررنا التوقف عن الخضوع لكلمة “عيب”؟ ماذا لو بدأنا نسأل أنفسنا: هل هذا “عيب” حقًا؟ أم أنه مجرد قاعدة وضعها المجتمع؟ قد يكون التحرر من هذه الفكرة هو الخطوة الأولى نحو بناء هوية حرة وقادرة على التفريق بين ما هو خطأ حقيقي وما هو مجرد خوف من نظرة المجتمع.
في النهاية، علينا أن نفكر في إعادة تعريف معنى “العيب”. بدلاً من أن يكون سلاحًا لتقييد الذات، يمكننا أن نستخدمه كمعيار أخلاقي ناضج، يتماشى مع قيمنا الشخصية وليس فقط مع ما يتوقعه الآخرون منا. فالحرية لا تأتي من تجاوز العيب، بل من فهمه بشكل أعمق، وتحديد ما يستحق التوقف عنده، وما يجب تجاوزه بثقة.
