لم يكن الرحيل خيارًا، بل كان نجاة. في اليوم الذي غادرت فيه الأرض التي أحببتها، ظننت أنني أترك الألم خلفي، وأن المنفى سيكون بداية جديدة. لكنني لم أدرك حينها أن الطغاة لا يرحلون بسهولة. كنت أعتقد أن الحدود تفصلني عن الماضي، عن الوجع، لكن الكوابيس لا تعترف بالجغرافيا.
مع كل غروب، ينتظرني نفس المشهد في منامي. أعود إلى تلك الزنزانة المظلمة، حيث الجدران تبدو وكأنها تتنفس معي، والضوء الخافت لا يكشف إلا عن ظلال الخوف المتراكمة. أسمع الصرخات المكتومة، وعندما أفتح عيني، أجد نفسي محاصرًا بين الماضي والمستقبل، في حاضر مشوّه. في قلب الكابوس، وجوههم تظهر بوضوح، وجوه الطغاة، وكل من وقف إلى جانبهم. وجوه لا تفارقني، حتى في أعماق ليلي.
ذات ليلة، حلمت بدمشق، المدينة التي هجرتها، لكنها لم تغادرني يومًا. في الحلم، كنت أسير متخفيًا بين شوارعها القديمة، أختبئ من أعين المخابرات التي تراقب كل حركة. كنت أركض، لكنني لم أستطع الابتعاد. كل زاوية، كل زقاق، كان يحمل نفس الشعور بالخطر، نفس الإحساس بالعجز.
استيقظت ووجدت العرق يغمر جبيني. حاولت استجماع أنفاسي، لكنني شعرت أن تلك الليلة لم تكن إلا تكرارًا لنفس الكابوس. لم يكن هروبًا، بل كان انتظارًا دائمًا. انتظار لحياة جديدة، لحرية لم تأتِ بعد.
ومع ذلك، أكتب. أكتب لأن الكتابة هي السبيل الوحيد الذي بقي لي. كل كلمة أكتبها ليست مجرد تعبير عن الألم، بل هي مقاومة. في كل حرف أسطره، أصرخ في وجه من سلبوا مني كل شيء. لم تعد الكتابة مجرد حروف، بل أصبحت سلاحي في مواجهة الكوابيس.
ورغم أن الليل يعود كل ليلة ليحاصرني، أدركت الآن أنني أملك شيئًا لا يمكنهم سرقته: صوتي. الكتابة هي نبضي الذي لا يمكن للطغاة إسكاته.
