في كل مرة تُطرح فيها فكرة الديمقراطية في العالم العربي، يقفز أحد “الفهمانين” ليتحدث بثقة عميقة عن أن العرب “غير جاهزين” لها. وكأن الديمقراطية أمرٌ يتطلب شهادة خبرة، أو ربما دورة تدريبية مكثفة تنتهي بمنحنا جواز مرور إلى عالم الحرية والعدالة.
في كل مرة نسمع فيها عن الديمقراطية في العالم العربي، يظهر لنا ذلك الشخص “الفهمان” الذي يرفع حاجبيه بحكمة ويقول: “العرب ما بتلبقلن الديمقراطية.. وكأن الديمقراطية مثل فستان سهرات فخم والعرب لازم يضلوا لابسين جلابية الاستبداد!” والأدهى أن هذا “الفهمان” يتحدث وكأن أوروبا عندما تحولت إلى الديمقراطية كانت في أفضل حالاتها، تنتظر فقط الإشارة لتتحول إلى مجتمع مثالي.
يا سيدي، دعني أذكرك، قبل أن ترتدي أوروبا تاج الديمقراطية، كانت تعيش في عصر أسود داكن. كانوا يقتلون ويشنقون ويحرقون بعضهم البعض بكل شغف، لدرجة أن موسم القتل كان أكثر شهرة من مهرجانات السينما هذه الأيام. أوروبا لم تكن “جاهزة” للديمقراطية، بل كانت مستعدة تمامًا لذبح نفسها، ومع ذلك، ولدت الديمقراطية من رحم الفوضى، بين الحروب القذرة ومحاكم التفتيش.
هذا “الفهمان” الذي يحاول إقناعنا بأن الديمقراطية ليست لنا، يغفل تمامًا أن أوروبا، التي يعتبرها مثالاً يحتذى، لم تكن في يوم من الأيام جاهزة للديمقراطية عندما تحولت إليها. قبل أن تصبح أوروبا ديمقراطية، كانت تعيش في عصورٍ مظلمة مليئة بالقتل، والإجرام، والملوك الطغاة الذين يتخذون القرارات وهم يتناولون العشاء على رؤوس الشعب.
أوروبا لم تستيقظ فجأة ووجدت نفسها جاهزة للديمقراطية. بالعكس، لقد سبقت الديمقراطية في أوروبا حروب دينية وإبادات جماعية، ومحاكم تفتيش. كان الدم يُسكب في كل زاوية، والشعوب كانت تُساق كالخراف. لكن مع ذلك، ولدت الديمقراطية من رحم هذا الفوضى والظلم، ولم تكن ثمرة “استعداد” مسبق.
لكن هنا يأتي “الفهمان” ليقول إن العرب يجب أن ينتظروا لحظة الجاهزية، تلك اللحظة الأسطورية التي لن تأتي أبدًا. كيف عرف أننا غير جاهزين؟ هل طلبت الديمقراطية منا استمارة الجاهزية ووجدت أننا لم نملأها بشكل صحيح؟ أم أن هذا مجرد عذر آخر لتأخير ما يجب أن يحدث؟
لماذا إذًا يعتقد “الفهمان” أن العرب بحاجة لانتظار مرحلة “الاستعداد”؟ هل الديمقراطية تُوزع وفقًا لجداول جاهزية تصدرها الأمم؟ أم أن كل شعب يُفترض أن يصنع استعداده من خلال التجربة والخطأ، مثلما فعلت كل الأمم التي سبقتنا؟
الحديث عن “الجاهزية” هو الحيلة الأكثر رواجًا لتأخير ما يجب أن يكون، وهو مجرد عذر لمنع الشعوب من ممارسة حقوقها، تمامًا كما كانت أوروبا تُمنع من التقدم في العصور الوسطى بسبب ملوكها وكنائسها. لنكن صريحين، إذا كنا ننتظر أن نصبح “جاهزين” للديمقراطية، فقد ننتظر للأبد.
الحقيقة المرة، والتي يعرفها الجميع ما عدا “الفهمان”، هي أن لا أحد كان جاهزًا للديمقراطية. لا أوروبا، ولا أمريكا، ولا حتى القارة المتجمدة. لكن الشعوب قررت أن تجرب الديمقراطية رغم أنها كانت فاشلة تمامًا في كل شيء آخر. أما نحن، فلدينا هذا الفريق الذي ينتظر أن نصبح جاهزين، مثلما ينتظر شخص في مطارٍ طائرته المؤجلة… إلى الأبد.
الديمقراطية لا تحتاج إلى شعب “مثالي” ولا ظروف “مثالية”. هي نظام سياسي يتطور مع الوقت، ويبني ذاته من خلال الممارسة والتعلم. لكن طالما هناك “فهمانين” يخبروننا أننا “غير جاهزين، ولا نستحق”، فربما علينا أن ننتظر ألف عام أخرى… أو أكثر.
